ثقافةصحيفة البعث

“تقاسيم حنين شرقي”.. ثلاث مفردات لخيبة مريرة

في مجموعته الشعرية الرابعة، الموسومة بعنوان (تقاسيم حنين شرقي) والصادرة عن دار الرائي بدمشق. يقدم الشاعر نضال بغدادي مقولة واحدة وهي أن يفصّل جزءا من حنين على شكل تقاسيم، وتقاسيم شرقية، وهو ينحو بهذا لأن يستحوذ الأصالة كجزء من مشروعه الشعري، فالصبغة العامة التي يوظفها في عنوان مؤلفه (تقاسيم حنين شرقي) كثلاث مفردات، محفزة، وآخذة مشروعيتها مما يجعلنا نحسّ جيدا بأن العنوان كان توطئة للدخول إلى عمق النصوص عامة، وهذا بالتأكيد شيء يخص اللعبة الفنية الشعرية في استفادة العنوان من النصوص والعكس. وما المقامات التي يبني عليها الشاعر البغدادي موسيقاه وحزنه إلا طرف آخر في تشكيل اللغة، اللغة التي هي الناهضة المحببة في صياغة الشعر، وفي صياغة الحياة بجملتها الفنية، وبانكسارها. وهذا ما جعل كل الحزن والخيبة، والتوق لانعتاق أكيد من التيه والاستلاب الذي تمارسه العادة والحياة ضدنا كبشر عاديين, وكبشر مبدعين لنا عين بأكثر من حساسية، إذا الحزن والخيبة ومحاولة الخروج من العزلة, إثاف لثلاث في رسم المشهد بغصته وحسرته. يقول:

“وحين التفت كي يطلقه/ فاجأه بحر غير البحر فاجأته شباك ونفايات/ وشيء ما يحترق في أول الليل/ أم في آخره لا أدري رأيته يضم وجهه بين كفيه/ وينتحب وإلى جانبه زورق مرمي من الورق.” ص 14- 15-

تقسم مجموعة الشاعر بغدادي إلى ثلاثة عناوين فرعية: “تفاصيل – تقاسيم – حالات انتظار” في التفاصيل ومن العنونة الفرعية تتبدى اشتغالات الشاعر على نص خاص، إنها تفاصيل الروح بانفعالاتها، منهزمة أو منتصرة، غير أنها تفاصيل مخلصة لذات صاحبها ولرؤيته ورؤاه إذ عرفناه شاعر رؤيا، يمسك بيد قصيدته العامرة بالرؤيا والمستحوذة على فلسفتها وكاميراها:

“الآن تعبت بما يكفي/ تعبت حتى لم أعد أجد في أي شبر من روحي مكانا لآوي. ص 17

“مر زمن وما مرت رؤاه/ فقدت الوردة متكأها سقطت/ فتساقط في بحر حيرته وارتباك السؤال!”. ص 26

الملاحظ على قصائد بغدادي في التفاصيل أنها ليست طويلة، وهي لا تندرج أيضا ضمن صيغة القصيدة الومضة، والتي سنجدها جلية في حالات انتظار في القسم المنتهي به الديوان. في القسم المعنون بـ “تقاسيم” ثمة قصائد طويلة, قصائد رؤيا بامتياز، تحضر فيها الحالة ويحضر المناخ المكوّن لتلك الحالة. ويبدو هنا الشاعر صانعا جيدا ومتحكما بأدواته الشعرية، ومدركا لمحاذير القصيدة الطويلة والتي تتطلب التكثيف، والسرد الشعري, لا السرد العادي والذي يقع فيه البعض. يقول الشاعر في مقطع جميل من قصيدته (إيقاعات من مقام الوجد): ”

يخرج الكحلي ليعد مائدة الياسمين/ ويغسل بماء الزهر ما تبقى من النعاس في باحة جسده/ يلقي بالشوق من فتحة النافذة الضيقة/ نحو شلال الذهب الغافي فوق الوسادة.” ص61

هذه القصائد عموما تحتفي بعناوين مشغولة بعناية ومتناسبة مع النصوص كما قدمنا مسبقا فمن (تقاسيم حنين شرقي) عنوان الديوان، إلى كشف سيرة ضائعة في الغبش المائي. إيقاعات من مقام الوجد، عزف منفرد، إيقاعات من مقام العزلة، نجد هنا الحزن الطافح والانكسار والشعور المرير بالخيبة، حين يصير المرء خالي الوفاض من الذي يجمّل حياته أو يزيّن تفاصيله الباهتة:

“سأمشي على مهل/ مستعينا بظلي لتفسير انكساري/ أقف متأملا أزيز الباب يهتز برفق/ لريح تهب أهب صوتي لصمت يسيل وئيدا من أوردة القلب/ وأصعد عليه الروح/ أجر قلقي كحارس قلعة فارغة.” ص81

قصيدة الومضة أو قصيدة التفاصيل اليومية، وإن كانت القصيدة الطويلة بمحاذيرها عصية وصعبة. فإن قصيدة الومضة لا تعطي قيادتها لمن يشاء ولمن يستسهلها، بل إنها تتطلب التكثيف والإدهاش، والتحايل عل اللغة لقول الكثير في جمل قصيرة ورشيقة قادرة على إيصال المعنى والمتعة في ذات الوقت.. ومضات الشاعر نضال بغدادي تستوفي جوانب مهمة في هذا الإطار. :

“كأنك على بعد وكأني لا أرى قربك.” ص111  تعتبر تجربة الشاعر نضال بغدادي من التجارب القليلة التي تخلص للشعر ولمقولته السامية والنبيلة.

أحمد عساف