“السترات الصفراء” تضع شعبية ماكرون على المحك
حالة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون هذه الأيام لا يحسده عليها أحد، بل يتعرض لمأزق كبير جراء التراجع المستمر في شعبيته بسبب الأزمات المتوالية التي تعترضه، والتي استغلتها المعارضة على أكمل وجه لتوجيه أصابع الاتهام إليه، والتشكيك في شفافيته ومصداقيته وقدرته على حماية مؤسسات الدولة، الأمر الذي شكّل تحدياً خطيراً لخطط الرئيس الإصلاحية خلال السنوات المتبقية من ولايته التي ستتحول إلى تسمم بطيء قد يؤثر سلباً على فرص ترشحه لولاية جديدة عام 2022.
فقد جاء قرار الحكومة الفرنسية برفع أسعار الوقود ليصب الزيت على النار، ويزيد غضب الشارع الفرنسي، حيث تشهد العاصمة باريس موجة احتجاجات شعبية نظّمتها حركة عفوية خالية من أي توجه سياسي أو نقابي معلن، وأطلقت على نفسها اسم “السترات الصفراء”، وهي ترمي إلى إغلاق كل النقاط الحيوية والاستراتيجية في البلاد، والسبب هو رفع أسعار الوقود الذي قررته الحكومة الشهر الماضي نتيجة ارتفاع أسعار النفط عالمياً بحسب زعمها، وأكد المشاركون في هذه الحركة والداعمون لها أن الفرنسيين يخضعون لسياسة ضريبية أنهكت الطبقات الفقيرة والمتوسطة، منذ تولي ماكرون السلطة، فقد أدت السياسة الاجتماعية لحكومة ادوار فيليب إلى تراجع كبير في القدرة الشرائية للمواطن، وارتفاع أسعار الوقود ما هو سوى القطرة التي أفاضت الكأس، بحسب القائمين على هذه الدعوة الاحتجاجية الذين أكدوا على أن حركتهم هي ردة فعل قاسية على ماكرون الذي ظل يردد طيلة 18 شهراً منذ وصوله للحكم أنه عازم على “إصلاح فرنسا”.
ويعتبر المراقبون أن حركة “السترات الصفراء” تختلف عن غيرها من الحركات الاجتماعية التي شهدتها فرنسا، سواء في عهد ماكرون أو قبله، بأنها تفتقد لأي زعيم أو خلفية حزبية، بل تحركها طاقات بشرية متنوعة منفصلة عن بعضها على مواقع التواصل الاجتماعي، فهي حركة افتراضية بامتياز ما يزيد من خطورتها بنظر السلطات الفرنسية، وقد تمكنت الاستخبارات الفرنسية من تحديد هوية الأشخاص الذين دعوا إلى إغلاق الطرقات لأول مرة في 10 تشرين الأول، وهم خمسة رجال وثلاث نساء تتراوح أعمارهم بين 27 و35 عاماً، وجميعهم من المنطقة الباريسية، وليس لديهم أي نشاط سياسي معروف، ولا صلة بأي مجموعة متشددة. هذه الحركة تعكس اتساع رقعة المستائين من سياسة ماكرون الاجتماعية لتضعه في أول تحد شعبي يعكس التدني القياسي لشعبيته كرئيس للجمهورية، ويضع شعبيته على المحك.
عوامل أخرى متعددة أدت إلى تدهور شعبية ماكرون لمستوى غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة، وفي مقدمتها أزمة حارسه الشخصي الكسندر بينالا الذي اُتهم في تموز الماضي بارتكاب أعمال عنف ضد المتظاهرين أثناء حضوره مظاهرة عيد العمال في باريس، وانتحال وظيفة ضابط شرطة، واستخدام بطاقات مخصصة للسلطات العامة. هذه الأزمة حظيت باهتمام الرأي العام الفرنسي، ونجحت المعارضة في استغلالها للقضاء على الصورة المثالية للرئيس الفرنسي، حيث أفقدته شريحة كبيرة من مؤيديه. بعد شهر من قضية بينالا جاءت الاستقالات المفاجئة لوزراء البيئة والداخلية والرياضة احتجاجاً على سياسات الحكومة، ما ساهم في تعقيد المشهد بالنسبة للرئيس الفرنسي. يُضاف إلى ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي واستمرار المعدلات المرتفعة للبطالة التي ساهمت بشكل كبير في تدهور شعبية الرئيس، وما زاد من الامتعاض الشعبي تجاهل ماكرون لكل مؤشرات وعلامات الغضب الاجتماعي من غلاء المعيشة على الرغم من محاولته استعادة ثقة الفرنسيين وكسب تعاطفهم من خلال خفض الضرائب وخطة الفقر، إلا أن الفشل كان حليفه، إذ لا تتوقف الأوساط الفرنسية عن وصفه برئيس الأغنياء لأن معظم سياساته تصب في مصلحة الطبقات العليا، من بينها خفض الضرائب على الشرائح الغنية والشركات في العام الأول من ولايته الرئاسية، وخفض فوائد الإسكان، ورفع ضرائب الضمان الاجتماعي التي ألحقت الضرر المباشر بأصحاب المعاشات التقاعدية.
من جهتها، أعربت أحزاب المعارضة، من اليمين “الجمهوريون” واليمين المتطرف “التجمع الوطني”، إلى أقصى اليسار الراديكالي “حزب فرنسا الأبية”، عن دعمها لحركة الاحتجاج الشعبي هذه رغم رفضها المشاركة فيها. فهل تنجح “السترات الصفراء” في إحداث هزة اجتماعية تقود الحكمة الفرنسية إلى مراجعة سياستها؟ وهل تمتد في الزمن في حال استمرت الحكومة في تجاهل مطالبها؟.
هيفاء علي