الشاعر الذي كتب الشعر بالدم
عمر الفرا …الوطن رقم واحدحين قيل له أن رينيه شار يقول: “أكتب الشعر أحياناً بأصابعي وأحياناً أكتبه بجراحي ردّ هو قائلاً: “أنا أكتب الشعر بالدم من خلال معاناتي ومعاناة الناس” لذلك لم يكن بغريب على الراحل عمر الفرا ابن أرض الحضارة الإنسانية، ابن تدمر وزنوبيا الأبية أن لا يحتمل ما يحدث في سورية، فتوقف القلب بعد أن تحمّل ما تحمّل على وقع أخبار تفخيخ داعش للمدينة الأثرية في تدمر مسقط رأسه، وهو الذي ظهر منذ أيام قليلة على شاشات التلفزة المحلية بين الناس الذين لم يبتعد عنهم لا كشاعر ولا كإنسان سوري، يقف إلى جانبهم بأحزانهم وأفراحهم وقد رفض موقف الحياد السلبي الذي يتبناه بعض المثقفين مما يحصل في سورية.في ثمانينيات القرن الماضي برز على الساحة الأدبية السورية اسم الشاعر الراحل عمر الفرا من خلال مجموعة من القصائد ذات الطابع الاجتماعي، كان معظمها باللهجة البدوية، وقد اكتسبت تلك القصائد شهرة واسعة وانتشاراً قلّ نظيره إلى درجة أن قصائده أخذت تباع على أشرطة الكاسيت كما تباع أغاني أشهر المطربين في ذاك الوقت.. ومن أشهر قصائده التي نالت رواجاً وانتشاراً قصيدة بعنوان “حمدة” تناول فيها ظاهرة إجبار الفتاة وخاصة في المناطق الريفية على الزواج من ابن عمها حتى لو كان ثمن ذلك حياتها، وكان من اللافت للنظر أن كل قصيدة من قصائد الفرا كانت تطرح قضية اجتماعية ملحّة فكانت قصائده الشهيرة –على سبيل المثال- عن المرأة العاقر التي لا تنجب، وعن عادة الثأر الذميمة التي تودي بحياة الأبرياء.. من هنا اكتسب الفرا شعبية هائلة وانتشرت قصائده لا في سورية فحسب بل وفي أنحاء الوطن العربي حتى أصبح واحداً من ألمع الأسماء الشعرية والأدبية.
يكتب من وحي آلام الناس
ولأنه كان يحب الناس كثيراً، وعلاقته بمجتمعه علاقة حميمة، كان شعره صدى لهذه العلاقة، وهو الذي لم يكن في يوم من الأيام جالساً في برج عاجي يحيك كلماته الشعرية من وحي النجوم والخيال، بل كان يكتب من وحي آلام الناس، يعبِّر عن مشاعرهم، فلم يترك قضية اجتماعية تلامس قلوبهم إلا وتحدث عنها، مبيناً في أحد حواراته أن علاقته بالشعر قديمة جداً، وقد كان مولعاً وهو في المرحلة الإعدادية بشعر امرئ القيس والمتنبي وعمر ابن أبي ربيعة ونزار قباني وقد تأثر بهم فكتب الشعر الفصيح في مستهل حياته، وخاصة الشعر العمودي، مؤكداً دائماً أن الشاعر الذي لا يتمكن من كتابة الشعر العمودي الصحيح لا يمكن أن يتقن كتابة الشعر الحر، فالشعر العمودي –برأيه- هو ركيزة متينة لبناء القصيدة:
“وكنا قد تلاقينا/ وذبنا بعدها عشقا/ وكان الدمع في الأحداق/يستجدي لكي نبقى”.
في مرحلة لاحقة كتب الفرا الشعر البدوي وذلك يعود –كما يعتقد- إلى الحنين الذي كان يسكنه دوماً إلى العودة للصحراء، مؤمناً أن الإنسان العربي مهما تدرّج في سلّم المدنية يكمن بداخله إنسان بدويّ.
حدَّث العالم بما يفهمون
ولإيمانه بأننا نحتاج إلى الشعر كما نحتاج إلى الهواء والماء كتب قصائده بطريقة بسيطة يفهمها الجميع، فكتب شعره باللهجة القريبة إلى كل العرب، فمعظم كلماته فصيحة بلهجة بدوية دون أن يتأثر بأحد من شعراء العامية، وقد انتهج -كما كان النقاد يؤكدون- مدرسة جديدة في الشعر وهو الذي حدَّث العالم بما يفهمون ويحلمون ويتمسكون به من (عادات) و(تقاليد) محاولاً أن يعطي الناس ويمنحهم ما يهمهم، فتكلم باسمهم وعاش وجلس بينهم: “كان حديثي قليلاً جداً، كنت أستمع أكثر مما أتكلم فربما من خلال ما يتكلمون أكتب قصيدة، كنت صوت الناس:
“ما أريدك/ ما أريدك حتى لو/تذبحني بيدك/ ما أريدك/إِبن عمي.. ومثل اخويَ/ ودم وريدي
من وريدك/ أما خطبة/ لا يا عيني/ لاني نعجه/ تشتريها/ولاني عبده/ من عبيدك”
الشعر مقاوم كالبندقية
كان الفرا يعتبر نفسه مقاوماً من المقاومين ولكن بأشعاره، فكان يؤكد على دور الشعر في المعركة وعلى أن الشعر مقاوم كالبندقية وربما أشد إيلاماً على العدو، وكان يؤسفه أنه كان الشاعر العربي الوحيد الذي وقف مع المقاومة اللبنانية: “قديماً كان الشعراء يذهبون مع الجيوش الفاتحة ليشحذوا عزيمة الجنود والمقاتلين” علماً أن الفرا كتب أول قصيدة شعبية عام 1973عندما كان في خدمة العلم وكانت بعنوان “البندقية” في حين كتب في سنواته الأخيرة قصيدة “رجال الله” التي وجَّهها لرجال حزب الله المقاومين في لبنان بعد انتصارهم في تموز 2006 وقد لاقت هذه القصيدة شهرة واسعة، حتى أن المقاومين كانوا يستمعون لها ويقرؤونها في خنادقهم:
“رجال عاهدوا صدقوا.. وقد شاؤوا كما شاء/ صفاء النفس وحدهم.. فجلّ حديثهم صمت، وكان الصمت إيماء/ إذا هبوا كإعصار فلا يبقي ولا يذرُ/ لهم في الموت فلسفة، فلا يخشونه أبدا، بذا أُمروا/ لأجل بلادهم رفعوا لواء النصر..فانتصروا/ جنوبيون يعرفهم تراب الأرض, ملح الأرض, عطر منابع الريحان”.
أما بالنسبة للإلقاء فقد كان في البدايات يلقي الشعر بين الفقرات في المهرجانات، ثم بعد أن عرفه الناس دُعي إلى أمسية وتجرأ على إلقاء الشعر وحيداً، مشيراً ذات مرة إلى أنه في البداية لم يكن أحد يطّلع على شعره، لا أهله ولا أصدقاؤه، وكان يخاف أن يُلقي شعره أمام الناس، وهو ابن البيئة البسيطة التي تسخر من المرء عندما يكتب الشعر، لذلك شاهدوه أول مرة في التلفزيون وعرفوا لأول مرة أنه شاعر.
قصيدة بلا موعد
يتفق الجميع على أن الفرا يكاد يكون أحد القلائل الذين حازوا شهرة واسعة في الشعر النبطي في سورية، وكان يؤسفه أن وسائل الإعلام لا تشجع الشعر الشعبي، وتنشر شعراً بالفصحى فقط، فتخطى هذا الموضوع في أمسياته وفي مقابلة الناس وجهاً لوجه، حيث اعتمد على إلقاء الشعر وقد خدمه الزمن كثيراً من خلال التلفزيون والانترنت، موضحاً انه لا يصر على شكل معين للقصيدة، لأن القصيدة برأيه تأتي وحدها وتختار موضوعها ومفرداتها ولغتها إن كانت شعبية أو فصيحة: ” قصيدتي تأتيني بلا موعد وعفو الخاطر، وأحياناً تأتيني في نومي فأجلس وأكتبها”.
الوطن عزة وكرامة
أما الوطن الذي أحبه الفرا فهو كما جاء في قصيدته الشهيرة: “الوطن يا ابني شبيه الأم.. إن رادت ترضع وتفطم، إن رادت توهب وتحرم.. الوطن يسكن خلايا الدم.. غريزة تسري عبر الدم.. الوطن عزة وكرامة وصحوة الوجدان.. الوطن صبر وعزيمة وقوة الإيمان.. الوطن ما هو لفلان أو لفلان أو فلان.. الوطن ساكن عشق فينا ولو غبنا.. الوطن رقم واحد وبعد مية يجي العالم.
بطاقة تعريف
ـ ولد عمر الفرا في تدمر من البادية السورية عام 1949.
ــ درس اللغة العربية في البادية السورية ومدينة حمص لمدة 17 عاما.
ــ اشتهر بطريقته المميزة في إلقاء الشعر ، واقترن اسمه بقصيدة “حمده” التي تتحدث عن فتاة بدوية تحدت العادات والتقاليد ورفضت الزواج من ابن عمها،ثم تنتحر متحدية أهلها وعاداتهم الجاهلية.
ــ له أكثر من خمسة دواوين معظمها بالعامية منها : الغريب، كل ليلة، قصة حمده ، حديث الهيل، الأرض النا.
أمينة عباس