يوميات رأس بشري
رأس محشو بالأفكار، لا يشبه إلا الباذنجان المحشي من يد سيدة أمضت أربعين عاما تحضر هذه الأكلة، وتتفنن في حشيها بالرز واللحم والتوابل، حتى أصبح كل من يمر بها يطلب منها المحشي.. ويضغط عليها كي تطبخه. يا الله هذا الكم الهائل من التفاصيل والأحداث في رأس بشري محشي كيف يمكن أن تطبخ بسهولة وعلى نار هادئة.
كنت أسترق ساعات قليلة من الزمن كي أرخي تعبي على الفراش وأفرده ليلا طويلا لا يقطعه شيء، ولا يعكر صفوه أي صوت، وكنت أفكر قبل لحظة الغفوة أي ما بين الوعي واللاوعي، كيف ينام الإنسان وكيف يستسلم بلا أدنى إرادة، كيف يستيقظ بعد ساعات وكأنه نام لعدة دقائق فقط. وفي كل مرة أعيد الكرة وأبدأ بطرح الأسئلة من جديد. كنت أحمل رأسي معي أينما ذهبت، نعم أنا أحمله ولا أعتبره جزءا متصلا بالجسد، هو كتلة مهمة قد تبدو عبقرية تارة وساذجة تارة أخرى، لكنه وبكل تأكيد الخزان الذي أستودع فيه كل ما أملك، الأفكار والقصص والقصائد التي كتبتها عن قصد والأسرار التي لم أبح بها، ولكي أكون واضحا هناك ركن للنوايا التي لو يعلم بها البعض لقاموا بنسف رأسي هذا من أساسه. الحمد لله أن لا أحد يستطيع الاطلاع على هذا المستودع إلا بإذن مني، وفي حالات نادرة بإذن من كوب خمر معتق يعود إلى السبعينيات مثلا، يسمح فقط بخروج مشاعر ملتهبة وذكريات مع تلك التي عشقتها يوما ولم أظفر إلا بشتائمها وتهديداتها. هناك أيضا مساحة لا بأس بها أحب أن أسميها مساحة حرة، لا أخبئ فيها شيئا ولم أشغلها بأي حدث، هي صافية تماما ونقية وهذه المساحة بالتحديد تركتها للأيام القادمة، لربما حصل أمر ما يستدعي أن أهبها له.
المرة الماضية ذهبت إلى العمل دون رأسي، استيقظت متأخرا وكنت على عجل والمطر يهطل دفعة واحدة وكأنه محروم من البكاء ثم سمع أغنية حزينة فجأة. وبينما أوضب نفسي للخروج واللحاق بباص النقل نسيت أن أسحب رأسي من على السرير، خرجت دونه، صعدت الباص ووصلت إلى مكان عملي ولم أتذكره إلا حين طلب المدير مقابلتي لنقاش أمر مهم. صعقت تماما كيف أتركه مرتاحا دافئا وأعرض نفسي للبلل أمام المدير، ومن حسن حظي أن المقابلة ألغيت يومها بسبب انشغال سيادة المدير بضيفة تفوح رائحة عطرها في الشركة كلها. بالطبع لا مجال للمقارنة بيني وبينها، هي التي لا رأس لها وأنا الذي لا أملك إلا رأسي، ومن يومها لا أخرج قبل أن أتأكد من أنني أحمله معي، أنا لا أريد أن أضع نفسي في مواقف محرجة، قد يكتشف أحد الأمر أو من الممكن أن توقفني شرطة الرؤوس الهاربة من جسدها ويبدأ التحقيق والسين والجيم. نحن مؤتمنون على رؤوسنا ويحب أن نفعل ما بوسعنا للحفاظ عليها سليمة مطيعة مهذبة وإلا سنضطر لأن ندفع ثمنا يكلفنا البقاء دونها. لا أحد يرغب بأن ينفجر الخزان ويطفح بما فيه.. سيفضح أمرنا لأن شرطة الرؤوس ستكون لنا بالمرصاد.
ندى محمود القيم