السيادة السورية بين الانسحاب الأمريكي وشرعية التواجد الإيراني
د. سليم بركات
الدولة ذات السيادة الكاملة هي الدولة التي لا تخضع في شؤونها الداخلية أو الخارجية لسيادة أو رقابة دولة أخرى، إنها مستقلة في الداخل والخارج، وهذا هو شأن الدولة السورية مثلها مثل أية دولة مستقلة حرة في ضوء ما نصت عليه المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، (على أن تقوم هذه الهيئة على مبدأ المساواة بين جميع أعضائها…)، وعلى أنه ليس في الميثاق ما يسوغ حتى للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي هي من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، أما الدول ذات السيادة الناقصة، أو المقيدة، فهي التي لا تمارس بحرية كاملة سيادتها بسبب خضوعها لدولة أجنبية، أو هيئة دولية، وأشهر أنواع هذه الدول ذات السيادة الناقصة أو المقيدة هي الدول التابعة والمحمية والموضوعة تحت الانتداب والمشمولة بالوصاية.
في الحالة السورية ووفقاً لمعايير القانون الدولي العام نجد سورية غير تابعة أو محمية أو موضوعة تحت الانتداب أو مشمولة بالوصاية، وإذا كان قد صدر من قرارات عن مجلس الأمن، أو توصيات عن الأمم المتحدة منذ العدوان الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي فيما يخص الدولة السورية، فإن هذه القرارات قد جاءت تبعاً للمسؤولية الدولية، ولمثل هذه الحالة التي تتعرّض لها سورية، ولأن المسؤولية الدولية في القانون الدولي تتلخص (في أن كل فعل غير مشروع قد يسبب ضرراً للغير يلزم فاعله بإصلاح هذا الضرر…)، وطبقاً لهذا القانون يمكن القول إن سورية قد تضررت أشد الضرر من الإرهاب الدولي الممارس عليها الذي يقوده التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي ومن لف لفه، بدءاً بالعدوان العسكري المباشر، ونهاية باحتلال جزء من الأراضي السورية بالشكل المخالف لكل قوانين الشرعية الدولية، زد على ذلك ما لحق بالشعب السوري من نكبات وكوارث، أكان ذلك على مستوى الدمار وسفك الدماء، أم من خلال المحاصرة الاقتصادية لتجويع الشعب العربي السوري.
إن الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها كانت خلف هذا العدوان المجرم على سورية، إلا أن صمود سورية شعباً وجيشاً وقيادة، وبمساعدة حلفائها روسيا وإيران وباقي محور المقاومة، أفشل هذا العدوان الإرهابي الدولي، الأمر الذي سبب مأزقاً داخلياً وخارجياً لدوله على الأرض السورية، ونظراً للإخفاقات والمخاطر وضغط الرأي العام المحلي والعالمي على هؤلاء، وبعد هزيمة عدوانهم العسكري على سورية، كل ذلك قاد الإدارة الأمريكية للانسحاب من الأراضي السورية مناورة وليس قناعة، تمهيداً لعملية سياسية تفهم من وجهة النظر الأمريكية على أنها محاولة للحصول في السياسة على ما لا يستطاع الحصول عليه في الحرب، سياسية تهدف إلى تفكيك محور المقاومة من خلال التصعيد السياسي والعسكري في مواجهة إيران، والدليل العدوان الإسرائيلي المتكرر على سورية بحجة التواجد الإيراني فيها.
إن وقوف إيران إلى جانب سورية في مواجهة العدوان الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي يأتي في إطار العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، هذه العلاقات التي لم تكن وليدة الأزمة السورية الحالية، وإنما كانت منذ انطلاقة الثورة الإسلامية في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، علاقات ترسّخت وتجذّرت مع الزمن في مواجهة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين العربية ومن يدور في فلكه، وإلى جانب الحق العربي وقواه المقاومة في صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي على مدار المرحلة المنصرمة، وقد تنامت هذه العلاقات لترقى إلى تحالف استراتيجي على الصعد كافة بعد أن برهنت تطورات الأحداث على تماسكها وصلابتها.
من هذا المنطلق، وفي إطار الشرعية الدولية، طلبت سورية المساعدة الإيرانية لتعزيز قوتها في مواجهة الإرهاب الدولي الذي يستهدف سورية أرضاً وشعباً، والممارس من قبل أمريكا وحلفائها في المنطقة الداعمين لهذا الإرهاب مادياً ومعنوياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ومع تفعيل هذه المساعدة، وبالتالي تفعيل العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين، بدأت ملامح انتصار سورية تظهر للعيان نتيجة صمودها، ووقوف حلفائها إلى جانبها، وفي الطليعة روسيا وإيران وباقي محور المقاومة، كما بدأت قوى العدوان على سورية، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني، تولول وتصرخ تنديداً بما تدعيه الوجود العسكري الإيراني في سورية، وبالتالي التصعيد في مواجهة إيران على الصعد كافة وفي جميع المستويات.
هنا لابد من التوضيح بأن المواجهة بين “إسرائيل” وإيران قائمة ومستمرة منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بحكم الشاه الصديق والحليف لـ “إسرائيل” ودول الغرب، وفي الطليعة الولايات المتحدة الأمريكية، منذ ذلك التاريخ لم يتوقف الكيان الصهيوني عن التحريض في مواجهة إيران، معتبراً إياها الخطر الوحيد الذي يهدد دول المنطقة، وهو تحريض مترافق مع تعطيل التطور العلمي الإيراني بحجة الملف النووي السلمي الإيراني، إلى أن برزت مسألة المواجهة المباشرة مع إيران في المرحلة الراهنة لتصبح أمراً متداولاً على المستوى الدولي، ولاسيما في الأوساط الإعلامية التي يحاول الإعلام الصهيوني تضخيمها لضرب مسار محور المقاومة الذي يشكّل الخطر المباشر على الكيان الصهيوني الإرهابي، ولحشد رأي عام استعماري غربي رجعي في مواجهة هذا المحور المقاوم الذي هزم المجموعات الإرهابية المسلحة التي تعمل وفق الأجندات الامبريالية الصهيونية، الأمر الذي أصاب هذا الكيان ومن لف لفه بالذعر وخيبة الأمل في تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي لا يتحقق إلا من خلال الاعتراف بـ “إسرائيل”، والتطبيع معها، وتنصيبها لزعامة المنطقة، والدليل هذا الحراك الذي يقوم به قادة “إسرائيل”، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، من دولة إلى أخرى، ولاسيما على مستوى الدول الكبرى، وهم يعلنون الخطر الإيراني على السلام العالمي وعلى مصالحهم في المنطقة.
تنوعت المواقف العسكرية والسياسية الإسرائيلية وتراوحت بين التنديد والتهديد لإيران، وبلغت الذروة على لسان نتنياهو: “لن نسمح لإيران بالتموضع العسكري في سورية، ولن نكتفي بانصراف الإيرانيين من جنوب سورية، لأن الصواريخ بعيدة المدى تستهدفنا، ولذلك يجب أن تخرج إيران من الأرض السورية بكاملها”، لكن القلق الامبريالي الصهيوني الرجعي من الحضور الإيراني على مستوى المنطقة والعالم قد أصبح واضحاً، ولاسيما القلق من التصادم المفتوح بين إيران وباقي محور المقاومة من جهة، وبين الكيان الصهيوني من جهة أخرى، حتى لا تتعطل صفقة القرن، وتصفى القضية الفلسطينية، ويمنع الشعب العربي الفلسطيني من تحقيق أهدافه، وإقامة دولته المنشودة وعاصمتها القدس الشريف، والأخطر من كل هذا هو خطر محور المقاومة على التواجد الإسرائيلي برمته.
من هذا المنطلق يسعى الكيان الصهيوني ومن معه إلى التصعيد في مواجهة إيران للنيل من صمود سورية وباقي محور المقاومة، وبغاية تمكين الإرهاب فيها كونها تمثّل قلب المقاومة، ولكن أياً تكن اعتداءات وسياسة الكيان الصهيوني وإرهابه فهو أعجز عن الوقوف أو التأثير على الحضور والفاعلية الإيرانية إلى جانب سورية وباقي محور المقاومة، وقادة هذا الكيان يدركون قبل غيرهم هذه الحقيقة، ولذلك يجدّون نحو التواجد الأمريكي المباشر في المنطقة وعدم انسحابه من الأرض السورية، أما أساليب الاعتداءات المتكررة على مواقع سورية بدعوى الوجود الإيراني فهي دون جدوى، لأن الغاية منها هي النيل من محور المقاومة، وهذا يدخل في مجالات الاستحالة حتى ولو ورطت “إسرائيل” أمريكا إلى جانبها في أية حرب قادمة على مستوى المنطقة، وهذا يعني أن الحرب الحقيقية ليست هي الحرب التي تفرضها “إسرائيل”، وإنما هي الحرب التي يفرضها محور المقاومة ليضمن هزيمة المشروع الصهيوني برمته.
بقي أن نقول إن أكثر من يخشى التصعيد في هذه المنطقة، ويخشى تطور الأمور نحو الحرب الشاملة هو الكيان الصهيوني وحلفاؤه، وعلى رأسهم أمريكا، والدليل هو أن نقاط الضعف الاستراتيجية عند هؤلاء هي هشاشة الموقع الجغرافي الإسرائيلي، وقدرة محور المقاومة على ضرب أعماقه بالشكل الذي لا تتحمّله “إسرائيل” في حال دقت ساعة المواجهة الشاملة، وإذا كان قادة التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي مستمرين في صخبهم وضجيجهم من التصريحات والتهديدات حول الوجود الإيراني، فذلك لأنهم يرغبون حشداً مناطقياً ودولياً لتفكيك محور المقاومة، إنهم يرغبون أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المهمة، ولكن هيهات.