هل تولد الجمهورية السادسة من رحم احتجاجات”السترات الصفراء”؟
هيفاء علي
تقول آخر المعلومات إن الحكومة الفرنسية العتيدة عقدت العزم على التحضير لوضع استراتيجية متكاملة ومتعددة الأبعاد لوضع حد لحركة السترات الصفراء. بالانتظار، تتساءل وسائل الإعلام الكبرى أو النظام الإعلامي المهيمن، عن الرفض الشعبي الكبير لبروباغندا الرواية الرسمية… ذلك أن الخطاب الرسمي حول السترات الصفراء يشكل موضوعاً مثيراً للقلق. ثمة تحليل تزامن مع التصريحات الرسمية حول هذه الحركة يشير بطريقة واضحة إلى قرار السلطات الفرنسية عن سابق إصرار التصدي لحركة المواطنين بغضب واعتبارها تشكل تهديداً أمنيا خطيراً وبالتالي لابد من محاربته بكافة الوسائل المتاحة وتوظيف الجهاز الإعلامي لهذا الغرض.
وعلى الرغم من التنازلات التي قدمها ماكرون وتراجعه عن زيادة الضرائب على الوقود، الشرارة التي حركت الاحتجاجات، وعلى الرغم من الوعود التي أطلقها لهم بزيادة الأجور وتحسين مستوى المعيشة، إلا أن السترات الصفراء تواصل التظاهر وقد عقدت العزم على إسقاط الحكومة والرئاسة معاً. وعليه، ويبدو أن ماكرون المتهم بأنه رئيس الأغنياء فقط، فقد أي بصيص أمل في ولاية رئاسية ثانية بعدما هوت شعبيته إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ الجمهورية وفق أحدث استطلاعات الرأي، وقد أعلن في خطابه الذي ألقاه في 10 كانون الأول الماضي، عن إطلاق”حوار وطني كبير. ومع ذلك فإن مطالب السترات الصفراء معروفة وتتعلق بالعدالة الضريبية والقوة الشرائية وتعزيز آليات الديمقراطية. فيما يخص الأخيرة، تركز المطالب على الاستفتاء على مبادرة المواطنين. وفي خطابه الذي ألقاه في 31 كانون الأول الفائت، أعاد ماكرون تأكيد رغبته في تنفيذ إصلاحات في التأمين ضد البطالة، وتنظيم الخدمات العامة والمعاشات التقاعدية، فهل سيقدم هذه الإصلاحات إلى “الحوار الوطني”؟
حركة “السترات الصفراء” ليست كسابقاتها من الحركات كونها مجردة من أي قيادة لها وكونها مستمرة بزخم أقوى يزداد مع قدوم كل سبت جديد و يستقطب المزيد من المؤيدين والمتعاطفين معها، وهي تتحدى في كل مرة عنف رجال الشرطة وتستمر في الاحتجاج على حكومة الأغنياء المعادية بقوة لمطالبهم بزيادة الأجور وتحقيق العدالة الاجتماعية والسلام . حقيقةً تشكل هذه الحركة جزءاً من عودة الصراع الطبقي الكبير الذي شهده العالم العام الماضي: الإضرابات التي نفذها معلمون أمريكيون بشكل مستقل عن النقابات، وإضراب عمال صناعة الصلب الأتراك والألمان، وعمال السكك الحديدية البريطانيين والفرنسيين ، جميعها تعكس غضب العمال من سياسات حكوماتهم الاقتصادية، وانعدام المساواة الاجتماعية. هذه الصراعات تعبر عن مشاعر الغالبية الساحقة من الشعوب في البلدان المعادية للسياسات التقشفية وسياسات الحرب التي تنتهجها البنوك الكبرى، بينما تهديد الديمقراطية يأتي من النخب الرأسمالية الحاكمة، فيما يحاول ماكرون تأسيس نظام استبدادي يجرم أي معارضة حقيقية لسياساته.
وقد اعتبرت الدوائر السياسية في باريس أن حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي تقودها” السترات الصفراء” كشفت النقاب عن أزمة ثقافية وإيديولوجية عميقة تعترض فرنسا وأوروبا عموماً، وهناك مؤشرات كثيرة على أن الشارع الفرنسي لن يهدأ بحسب تحليل الباحث الفرنسي في الدراسات الاجتماعية، كونت مارسيل. إذ يرى مارسيل أنه إذا كانت حركة الطلاب عام 1968 بداية عهد جديد في فرنسا، وظهور تيارات سياسية غيرت مجرى حياة الفرنسيين، فإن حركة السترات الصفراء قد تحمل بوادر ميلاد الجمهورية السادسة، وتجعل فرنسا تقف أمام أبواب المجهول، فمن الواضح أن القضية أكبر من مجرد مواجهات بين الشرطة و مجموعة من الشباب لأن الشارع الفرنسي يغلي ويطالب بالتغيير.
إذ ينبئ المشهد العام باحتمالات قائمة وغير مستبعدة، وتطور الأحداث يشي باستياء الشارع الفرنسي من أحزاب اليمين واليسار على حد سواء و انعدام ثقته وقناعته بهما ما دفعه للنزول إلى الشارع للتعبير عن سخطه وغضبه من سياسات ماكرون وحكومته. وإذا استمرت الأحداث بالتطور على هذا النحو، ستشهد فرنسا ولادة الجمهورية السادسة، ما يعني دستوراً جديداً ونظاماً انتخابياً جديداً، فمطالب الشارع لم تعد محدودة بل في تصاعد مستمر. ويرى المحللون أن الجمهورية الخامسة بدأت تتداعى واستمرار احتجاجات السترات الصفراء يزيد من فرص ظهور الجمهورية السادسة، فالديمقراطية التمثيلية لم تعد مرضية للناخب الفرنسي ولا للشارع الفرنسي ما دفعه للتوجه نحو الديمقراطية المباشرة، والصراع بين الديمقراطيتين يؤكد وجود أزمة حقيقية في المؤسسات الفرنسية. ذلك أن رفع سقف المطالب إلى الإطاحة بالرئيس إنما يشكل انقلاباً صريحاً على الديمقراطية الغربية، حيث لم يسبق وأن تبنى متظاهرون في دول المعسكر الغربي مطالب بالإطاحة برئيس منتخب، ما يمثل امتداد لحالة الغضب العارم في الداخل الفرنسي حيث عبر الفرنسيون عن تدهور الأوضاع عبر الانتخابات الرئاسية في كل مرة من دون تسجيل أي تقدم ملموس، في ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية من جهة، وقضايا الفساد التي لاحقت بعض الرؤساء السابقين من جهة أخرى، وهنا يحمل الحراك الفرنسي في طياته” رفضاً” للديمقراطية الغربية ومبادئها، في ظل سياسات تبناها الرؤساء المتعاقبون على الاليزيه.
هنا لابد من التذكير بالجمهورية الخامسة:
هي الجمهورية التي اعتمدت الدستور الجمهوري الفرنسي الحالي في 5 تشرين الأول عام 1958، ونشأت على أنقاض الجمهورية الرابعة مستبدلةً الحكومة البرلمانية بنظام نصف رئاسي، حيث حكم خلالها كل من شارل ديغول، وجورج بومبيدو، وآلان بوير بصفته رئيساً مؤقتاً لمدة 25 يوماً فقط، وفاليري جيسكار ديستان، وفرانسوا ميتيران، وجاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، وفرانسوا أولاند، والرئيس الحالي ماكرون.
هل سيكون هناك جمهورية سادسة؟ يشير مراقبون إلى أن الارتباط الوثيق للانتقال من جمهورية إلى أخرى تاريخياً كان بتعديل الدستور وتغيير أنظمة الحكم في فرنسا، وهناك مقومات ومؤشرات قد تساعد في الانتقال إلى الجمهورية السادسة نتيجة مرور فرنسا وأوروبا عموماً بظروف مضطربة أبرزها صعود اليمين المتطرف كرد فعل على الهجرة الكثيفة التي شهدتها الدول الأوروبية في السنوات الأربع الأخيرة، ما شكل من وجهة نظر اليمين، تهديداً لهوية أوروبا.
الوقت خطير، والأزمة عميقة، وفرنسا على مفترق طرق، فإذا كانت الحكومة عاجزة عن إدارة مثل هذه المظاهرات والعمل على احتوائها، فهذا يعني أن السلطة التنفيذية ليست سوى انصهارا للنظام القائم الذي يفتقر إلى الوسائل الضرورية لسياسته، ولا يخدم سوى قلة قليلة من الأثرياء ودولة عميقة تتشكل من زمر المافيا المخصصة بسلطة الإزعاج اللا محدودة في حال تفعيل البروباغندا. لكن المشكلة وقعت والبروباغندا لم تفعل فعلها ما أصاب النظام بنزلة “أنفلونزا” طرحته أرضاً… الجنوح خطير، ومسألة تعيين وتحديد عدو داخلي واعتباره يشكل تهديداً للنظام القائم، واعتباره إرهابي لن يعمل إلا على تفاقم كتلة المشاكل ولن يحل أي منها ، فسلام السجون لا وجود له.
في هذا السياق ، ينعى محلل سياسي مخضرم الجمهورية الخامسة ويتساءل، لماذا تحرص الدولة العميقة في فرنسا، ذات الطبيعة الإجرامية والمافيا البحتة، على تغيير نظام الحكم في سورية بكافة الوسائل، بما فيها دعم و استخدام الإرهاب الأكثر وحشية وبشاعة؟ ولماذا تدعم الإرهابيين والخارجين عن القانون في سورية بالمال والسلاح وتخسر المليارات لانتزاع نصر عسكري مستحيل، ولا تبدي أدنى درجة من التعاطف مع السترات الصفراء؟
إذا كانت لدى فرنسا مصالح استعمارية قديمة وخاصة في إفريقيا لتدفع مليارات الدولارات إلى المعارضة في مالي لاستنزافها وإفلاسها من أجل نتيجة سلبية ، فما هي مصلحة فرنسا في سورية ؟ بالتأكيد لا شيء.
في الواقع، لم تخدم الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ ساركوزي سوى الأسياد الأجانب على حساب مصالح فرنسا، الذين يحصدون مليارات اليورو من عقود الأسلحة مع لجان تجريدية مكونة من أشخاص فاسدين عالقين في آليات جهاز الدولة. هذه الحكومات تتبع مبدأ الإثراء الشخصي حتى لو كان على حساب الخراب والدمار في البلاد.
هناك أيضاً وعلى وجه الخصوص ثقل لوبي خائف من التغيير العميق الجاري في الولايات المتحدة. هذا اللوبي في حالة ذعر ويعتمد على ماكرون للتعبير عن رفضه لبعض القرارات الأمريكية ضد خطط صناع الحرب المتحدثين باسم ماكرون! وكلما فتح الفرنسيون أعينهم ، كلما زاد فقرهم. والوسائل لتحقيق هذه الغاية متوفرة : فرض الضرائب على كل شيء حتى لا يستطيعوا رفع رؤوسهم.
لقد أصبحت فرنسا وألمانيا، من أهم الدول الأوروبية الرئيسية في القوة الناعمة، ورائدة صناع الحرب الدوليين في حين أن الولايات المتحدة، التي نصّبت نفسها شرطياً على العالم، واتبعت سياسة القوة الصارمة، تتورط أكثر فأكثر في التضليل في حروب لا نهاية لها وتكلفتها باهظة.
لن ينتصر ماكرون ولا أولئك المتخفين وراء الستار لأن السترة الصفراء لن تموت! السترة الصفراء لا تزال جاهزة تقتات من سئمها واستياءها من سياسات ماكرون الإجرامية والمدمرة .
وقد آن الأوان كي ينظف الفرنسيون فساد حكوماتهم ونظامهم السياسي الذي بلغ الذروة رغم وجود بعض التأثيرات التجميلية الخادعة التي تغطي الأخطاء وسوء النية. الجمهورية الخامسة ميتة بحكم الواقع، و الحكام والمفضلون لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة.
الخاتمة:
هناك قادة لا يفهمون الفرق بين التمرد و الحركة العميقة….هناك أيضاً قادة لا يفهمون كيف يمكن للمرء أن ينزلق من واحد إلى آخر، وهذا التحول هو إلى حد كبير نتاج عجز أو صمم الحكام. عند الإعلان عن الاستيلاء على الباستيل، صرخ لويس السادس عشر قائلاً : “إنها ثورة؟ وأجاب أحد الحاشية:” لا مولاي إنه مجرد تمرد”. فهل ارتكب ماكرون نفس الخطأ؟ وهل ينزلق على المنحدر نفسه؟ الأيام وحدها كفيلة بكشف ذلك..ولكن إذا استمر في عدم سماع ما يقوله له الفرنسيون، إذا استمر في استفزازاته، فهناك سبب قوي للاعتقاد بأنه يساهم في تحويل حركة محدودة إلى ثورة حقيقية… في كثير من الأحيان يكون الخوف من الناس بداية الحكمة للقادة … ومن الواضح أن ايمانويل ماكرون لم يخف بعد من الفرنسيين، ولن يتنازل عن كرسي الاليزيه على الرغم من تواجده في مواجهة حاسمة مع اليسار واليمين المتطرف، ويخشى على مستقبل القارة العجوز في حال نجاح الحركات الاجتماعية.