ترامب.. وتلامذة الاستخبارات
اخترق دونالد ترامب حواجز مجمع الاستخبارات الأمريكية لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، ووصف مسؤولي المخابرات بأنهم تلاميذ يجب عليهم العودة إلى مقاعد الدراسة. تصريحات ترامب جاءت بعد عرض مدير المخابرات الوطنية، دين كوتس، ومسؤولي استخبارات آخرين تقريراً عن تقييم للخطر على المستوى العالمي أمام مجلس الشيوخ قبل أيام.
هذا الاختراق مرده إلى الاختلاف في وجهات النظر حول الأخطار التي تقيّمها الاستخبارات الأمريكية في مطلع كل عام لرسم استراتيجية الردود المناسبة بحسب وجهة النظر الأمريكية على تلك التهديدات. فمن جهة ترى الاستخبارات الأمريكية أن الخطر القادم هو من الصين وروسيا، بينما يرى ترامب بأن الخطر الحقيقي سيأتي من إيران، حسب زعمه.
في السابق جرت العادة، خلال مثل هذا النوع من الاستعراض الأمني للأخطار المتوقعة، أن يكون الرئيس الأمريكي أكثر دبلوماسية في الرد على أي تقرير للاستخبارات، وأن يحاول إقناع الآخرين بوجهة نظره، لكن ترامب خرق هذا العرف إلى درجة التشكيك بالمعطيات التي تقدّمها تلك الاستخبارات، وهو ما دفعه لوصفهم خلال عرض تقريرهم بـ “الساذجين”، وهو مصطلح يستخدم عادة لمن فيه مس من الغباء.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتصادم بها ترامب مع جهاز الاستخبارات، ففي العام الماضي تعرّض ترامب لموجة انتقادات من الديمقراطيين والجمهوريين في موضوع تدخل روسيا المزعوم في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، إلا أن حدّة انتقادات ترامب والطريقة العلنية التي أعرب فيها عن غضبه من تقييم الاستخبارات للأخطار تظهر عمق الانقسام بين البيت الأبيض وجهاز استخباراته.
فمن جهته يرى ترامب أنه نجح في سورية وكوريا الديمقراطية، بينما يناقض مدراء أجهزة الاستخبارات تقييم رئيسهم المتفائل، حسب تعبيرهم، بل طعنوا في زعم الرئيس بأن طهران تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية، وهو التبرير الذي استخدمه ترامب للانسحاب من الاتفاق الذي أبرمته إيران مع عدة “5+1” في 2015، واعتمد أممياً.
لكن من المؤكد أن هذا التضارب في التصريحات يبيّن أن الصراع الخفي بين الدولة العميقة والرئيس الأمريكي سينتقل إلى مراحل متقدّمة من الاصطدام، لأن القضايا التي يثار الجدل حولها تقلق مؤسسة الدفاع الأمريكية وحلفاء واشنطن، لجهة الانسحاب من سورية، أو التخطيط لعقد قمة ثانية مع رئيس كوريا الديمقراطية كيم جونغ أون، وحتى التشكيك في تقديرات الاستخبارات.
لذلك فإن المسألة أكبر من كونها مجرد صدع داخلي، لأنها تتخطى حدود الداخل الأمريكي، وإنما الصراع الحاصل في حقيقته هو على مكانة أمريكا العالمية وهيبتها، وبالنظر إلى ما يرسمه ترامب وشعبويته نجد أن التصادم الاقتصادي هو المسيطر على فكره، وأن التقييمات الكلاسيكية لقدامى الاستخبارات قد ولى زمنها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الانسحاب من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لن تلزم أمريكا بأي شيء، وهذا يدفعها لحرية الحركة في كافة الاتجاهات ما دامت تملك رأس المال الكبير، حتى الاستثمار في صناعة الحرب، ولهذا نجده يركّز على خطر إيران، ما يدل أنه يضمر شيئاً ما لها في المستقبل، لاستنزاف أتباعه في المنطقة، كون بلاده لا تستطيع الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا والصين وحتى كوريا الديمقراطية.
من الواضح حتى الآن أن واشنطن ستدخل في نفق الصراعات الايديولوجية، وأن الوصول إلى تفاهمات حول “أمريكا أولاً” سيصطدم بإجراءات قد تقلب المعادلة في أمريكا، وقد يكون كل شيء مؤجلاً حتى عام 2020 موعد الاستحقاق الرئاسي القادم.
علي اليوسف