دراساتصحيفة البعث

الدبلوماسية الأوروبية بين الأمس واليوم

 

إعداد: هيفاء علي

كانت المجتمعات البشرية مع بداية تطورها بحاجة إلى الاتصال وتنظيم نفسها في مجموعات وشعوب، ومن ثم في ممالك لتبادل المعلومات والتفاوض والتوحّد ضد الأعداء المشتركين، وتوحيد مصائرهم من خلال حفلات الزفاف وتنظيم تجارتهم.
هذه الدول المخصّصة بإدارات وموظفين وبهيئة عسكرية سوف تلجأ على امتداد تاريخها إلى جهاز مثقف جداً ستكون مهمته، ليس فقط تمثيل ملك لهم إزاء مملكة أجنبية، ولكن أيضاً إبلاغه بكل ما قد يكون مفيداً لسياسته. وعليه بدأت الدبلوماسية مع أولى المدن في اليونان القديمة، ثم تمّ إرسال الدبلوماسيين لإجراء مفاوضات محدّدة ليعودوا فور الانتهاء من مهمتهم.
أدى تراجع المدن -الأقاليم في أوروبا- في العصور الوسطى إلى تقليص هذا النشاط باستثناء مملكة إسبانيا التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الإمبراطوريات والممالك المختلفة في أوروبا والمغرب العربي والشرق الأوسط. وهذا النشاط كان ضرورياً في أوروبا منذ عصر النهضة، لأن المعلومات أصبحت أكثر ضرورة في نظام تتشارك فيه الأمم أقاليم قريبة، وبالتالي يغدو التواصل أمراً أساسياً.
في الواقع، لم يعد بإمكان الأمراء الاعتماد على معلومات مستقاة من التّجار أو المسافرين أو المبعوثين المؤقتين المدفوعين بمصالحهم الشخصية. لقد كانوا بحاجة إلى معلومات موثوقة وثابتة في أوروبا، وهي مليئة بالحركة الغنيّة بالتبادلات، الأمر الذي سيرسّخ نفسه منذ بداية عصر النهضة. وكانت مدينة البندقية هي أول من يرسل مثل هؤلاء الممثلين، وأصبحت تقاريرهم مصدراً قيّماً للمعلومات عن أوروبا في القرن الخامس عشر.
بالنسبة للحاكم المستنير، كان من الضروري أن يكون قادراً على معرفة تطور أصدقاء أو أعداء الممالك المجاورة. لذلك يكتب سفيره إلى وزيره يحدثه عن تطور السياسة في البلاد، ومشكلات الجهاز القضائي، والشخصيات التي يجب تثقيفها وتعليمها في المستقبل، والاستعدادات الممكنة للحرب التي يحاولون إبقاءها سراً، والأسئلة الحياتية الأساسية للقيام بذلك والأحوال المالية، وهنا يستخدم السفير مراسلة مشفرة ومعقّدة بحكم ضرورة سريتها.
في فرنسا، على سبيل اتخذ هوغو دو لاون (1611-1771) أولى خطواته الدبلوماسية مع الكاردينال مازارين، وشارك في المفاوضات حول معاهدات ويستفاليان (1648) ومعاهدات بيرينيه (1659). وعندما أصبح سفيراً في روما عام 1655، في مدريد في 1658 وفي فرانكفورت، قاد الشؤون الخارجية في عهد لويس الرابع عشر (1663-1671)، وأعدّ حرب التفويض من خلال المساهمة في العزلة الدبلوماسية لإسبانيا من خلال التوقيع على معاهدة سرية مع النمسا، ثم حرب هولندا عن طريق التحالف مع انكلترا، وتأمين حيادية السويد مع مختلف الإمارات الألمانية.
وهنا شهد تنظيم الدول تطور السلك الدبلوماسي في فرنسا الذي سيعيد تركيب نفسه بنفسه، ويجعلها دولة تمهيدية في هذا المجال. وهكذا كان لدى الدبلوماسي الفرنسي كولبير دي تورسي فكرة إنشاء أكاديمية سياسية في عام 1712 لتشكيل وزراء للسفارة، وسوف ينشر فرانسوا دي كاليير في عام 1716 كتاباً مرجعياً بعنوان: “طريقة التفاوض مع الملوك، فائدة المفاوضات، واختيار السفراء والمبعوثين، والصفات اللازمة للنجاح في هذه الوظائف”.

اختيار الملوك
عادةً ما يتمّ اختيار الشخصيات لتكون في منصب السفير من قبل ملك قويّ إزاء حاشيته الارستقراطية، ويجب أن يكون المرشح بعمر متوسط ومستشاراً معروفاً ومقرباً ولديه الخبرة والكفاءة في أمور الدولة. كما أن غالبية السفراء سيتمّ اختيارهم من قبل الملك ووزير خارجيته بين النبلاء الذين يتردّدون على المحكمة وعلى مقربة من العائلة المالكة أو من المقربين منه. ومعظمهم سيكونون من الأشخاص المتعلمين، وأعضاء السلطة القضائية ورجال الدين. ولكن كما هي الحال في المحكمة الدولية، كان المفضلون المرشحون الذين تمّ تعيينهم لمنصب السفير بحكم قرابتهم من العائلة الحاكمة كثراً.
وعندما يقوم الملك أو السيد بتعيين أشخاص أثرياء ومن أسر أرستقراطية في المناصب الحكومية، فذلك يمنحه ميزة عدم دفع الرواتب لهم. عموماً يوفر السفراء كامل النفقات الدبلوماسية بحيث ينالون رضى الملك. رغم ذلك، كان هذا المنصب محطّ أطماع العديد من العائلات الأرستقراطية والكنيسة والجيش.

الدبلوماسية القديمة
بعد الحروب النابليونية، وعلى وجه الخصوص أثناء انعقاد مؤتمر فيينا عام 1815، أصبحت تنقلات الوزراء أو رؤساء الدول أكثر تواتراً. ومع وصول السكك الحديدية، وتطوير التلغراف والبريد الإلكتروني، تطوّرت الحركة الدبلوماسية لأن التنقلات أصبحت أكثر سرعة من المراسلات، ما أدى بالنتيجة إلى حسابات وتعليمات أكثر سرعة.
كما أن التطور السريع للعلاقات الدولية في القرن العشرين كان مصدر تضاعف عدد الدول وظهور المنظمات الدولية. ولسوف تستقر في نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية من الحرب العالمية الأولى، والتي قادت عام 1919 إلى وضع الإدارة المستمرة للعلاقات بين الدول وتطوير الدبلوماسية.
لذا سوف نرى ولادة عصبة الأمم المتحدة الناجم عن معاهدة فرساي، والتي ستستهدف الأمن الجماعي من خلال المفاوضات الجارية، ومن ثم إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، والتي ستكون مهمتها الرئيسية الحفاظ على السلام والمبادئ الكبرى التي ستقيم العلاقات الدولية.
تزايد عدد الدول نتيجة عمليات الاستقلال عقب نهاية الاستعمار الثاني عام 1960 وتفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وهذا أدى إلى إخراج العلاقات الدولية من الإطار الأوربي الوحيد الذي يعود للقرن التاسع عشر، وبقوة الظروف دفعت إلى تأقلم الخدمات الدبلوماسية.
في الواقع، متطلبات السرعة والقدرة التنافسية، واستخدام الاتصالات السلكية واللاسلكية، وتطوير السفارات لتكون أقرب إلى الجهات السياسية، واستخدام وسائل النقل الأسرع كي لا ينتظر العمل المكتوب، ترافقت مع دراسة أكثر تفصيلاً من الصحافة للحصول على المعلومات الضرورية لهذه الوزارات مع نظيراتها الأجنبية.
العلاقات الدبلوماسية والقنصليات في القرن الحادي والعشرين هي واحدة من مظاهر ظهور ظاهرة الدولة. إن المعيار الأكثر ضمانةً لسيادة دولة ما هو حقيقة أن تقيم علاقات دبلوماسية وقنصلية مع دول أخرى سيادية، من خلال وكلائها على قدم المساواة، شريطة أن يكون لها تمثيل في المنظمات الدولية من خلال المشاركة في أنشطتها.
وتُضاف إلى العلاقات بين الدول، العلاقات الدبلوماسية التي أقامتها الدول مع المنظمات الدولية، ويجوز للدولة أن تستضيف على أرضها بعثة دبلوماسية معتمدة لدى منظمة دولية، في حين قد لا تكون لها علاقات دبلوماسية مع تلك الدولة.
لذلك تستجيب الدبلوماسية الحديثة للاحتياجات الجديدة من خلال تخصّصها ، وفي المجالات المتنوعة المشمولة، وتخصّص هؤلاء الدبلوماسيين إضافة إلى مرونة أكبر في التوظيف. على الرغم من أن السرية هي أساس العمل الدبلوماسي، إلا أنها تترك اليوم مجالاً لانفتاح معيّن من خلال وجود نقطة صحفية وبيانات صحفية.
ومهمّة السفير ليست فقط تمثيل الدولة، لحماية مصالحها ومواطنيها ولكن أيضاً للتفاوض مع الحكومة المستضيفة للاستفسار عن التطورات في الدولة المستقبلة، وتعزيز العلاقات الثنائية الودية. ولممارسة مهمته يتمتّع السفير بحرية الاتصالات الرسمية والحصانة القضائية والحرمة الشخصية المطلقة، ولا يمكن القبض عليه أو احتجازه.
في بعض الأحيان تواجه الدول بعض التوترات دون أن يولد هذا تصاعد الحرب، لإظهار استيائها هناك تدابير مختلفة مثل القطيعة الدبلوماسية وإغلاق التمثيل. تتمّ التوترات بالتراضي، ولا يوجد التزام، وتكون القطيعة عملاً تقديرياً من جانب دولة ما في حدود مسار تدهور العلاقات مع البلد المضيف. وإن إغلاق منصب دبلوماسي ليس مرادفاً لقطع العلاقات الدبلوماسية إذا كانت السفارة في البلد المجاور معتمدة. وفي حالة القطيعة، تتعهد الدولة إلى دولة أخرى بمهمة تمثيل مصالحها عندما يكون لديها الوسائل.
أما القنصليات فهي أيضاً جزء أساسي من العلاقات الدبلوماسية، لأنها مسؤولة عن حماية مصالح الدولة ومصالحها، وتعزّز تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية والعلمية لأداء وظائف معينة بشأن المواطنين، وإصدار جوازات السفر، وإصدار التأشيرات.

كيان بروكسل التكنوقراطي
في الوقت الذي كانت فيه جميع البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مستمرة في صيانة وضمان بعثاتها الدبلوماسية الثنائية والمتعدّدة الأطراف، تمّ إنشاء كيان بيروقراطي جديد عام 2009 هو المكتب الأوربي للعمل الخارجي.
هذا الجهاز المؤسّسي للاتحاد الأوروبي، تحت سلطة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، يشكّل الخدمة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي، سواء في بروكسل أو في الخارج.
مقره في بروكسل، ويمتلك هذا الجهاز شبكة كبيرة من ممثلي الاتحاد الأوروبي مع ممثلي السفراء الذين يعملون بالتعاون مع وزارات الخارجية والدفاع في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وباقي المؤسسات الأوروبية مثل المفوضية الأوروبية والمجلس والبرلمان.
ويقوده الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية، ويتحمّل مسؤولية تنسيق العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي وتطوير وتنفيذ سياسة الأمن والدفاع المشتركة. وضعت تحت مسؤوليته مسؤولين أوروبيين ودبلوماسيين في المكاتب الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والموظفين المحليين.
ففي حين يتعيّن على الاتحاد الأوروبي أن يلعب دوراً، وفقاً لأنصاره، متزايد الأهمية في الدبلوماسية العالمية، فإن دور الكيان البيروقراطي، في محاولة لتحقيق التماسك والتنسيق في الدور الدولي للاتحاد الأوروبي، يطرح مسألة شرعية ومتانة التمثيل الدبلوماسي بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
في الواقع، تمّ إقرار العلاقات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في ستراسبورغ وبروكسل، ووعي هذه البديهة “النسبية” يجب أن يلزم رؤساء الدول والحكومات بتفكير جديّ حول ترشيد واضح للمناصب الدبلوماسية في قلب الاتحاد الأوروبي.
في ضوء العديد من الأزمات الدبلوماسية أو اللقاءات الشكلية في السنوات الأخيرة في الاتحاد الأوروبي وفي الخارج، فإن الممثل الأعلى للدبلوماسية الأوروبية، الذي تتمحور مهمّته الأساسية في تمثيل مصالح الاتحاد الأوروبي، يفعل العكس. وأحدث مثال على ذلك هو الاجتماع حول مستقبل سورية، الذي جمع بين تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا.
لم يتغيّر شيء حقاً، وما زال العمل الدبلوماسي بالمعنى الضيق يتمّ داخل الاتحاد الأوروبي من قبل السفارات الوطنية وليس من قبل بروكسل. كما أن المواطن الأوروبي يتساءل عن الضرورة للحفاظ على هذه البنية الفائقة التي توظف عدداً كبيراً من الموظفين ذوي الأجور العالية!.