دراساتصحيفة البعث

الخطوات النهائية لثورة متعددة الأقطاب

ترجمة وإعداد : لمى عجاج
تتناول هذه الدراسة الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لاحتواء الفوضى التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا وعواقب المبدأ الذي اتخذه ترامب شعاراً لولايته (أمريكا أولاً) ومذهب مونرو الذي نادى وقتها بمنع أي تدخل من الدول الأوربية في شؤون أمريكا الجنوبية عندما كانت أوروبا تتمتع بقوتها آنذاك.
لكن الولايات المتحدة تمكنت من إثارة الفوضى والدمار في أجزاء كبيرة من أوروبا في العقود الثلاثة الأخيرة، فعلى الرغم من القوة التي عاشت القارة الأوروبية على أطلالها وتنعمت بها قديماً إلا أن هذه القوة أصبحت شيئاً من الماضي، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبحت أمريكا القوة التي تقود النظام العالمي، ورغم الأكاذيب التي استخدمها السياسيون الأوروبيون عن الاتحاد الأوروبي وتبريرهم وامتداحهم لمشروع التكامل الأوروبي إلا أن هذا لم يغطي على التاريخ القديم للقارة الأوروبية وما شهدته من حروب مدمرة شنتها ضدها الولايات المتحدة الأمريكية، كحربها على يوغسلافيا عام 1990، والصراع الذي دار بين جورجيا وأوستيا في مطلع العام نفسه، والحرب في جورجيا عام 2008، والانقلاب في أوكرانيا عام 2014 تلاها العدوان على دونباس.
إن جوهر المشكلة يكمن في رغبة حلفاء واشنطن الطوعية في احتواء الامبريالية الأمريكية التي يتعرضون لها منذ سنوات عديدة وخاصة في أعقاب الحرب الباردة، فالدول الأوروبية فضلت بإرادتها أن تضع الولايات المتحدة الأمريكية في خانة المستعمر وليس الحليف وهذا أمر طبيعي بالنسبة للسياسيين الأوروبيين الذين اعتادوا دوماً على خدمة واشنطن والتذلل لها والسعي الدائم للحصول على رضاها وخدمة مصالحها بدلاً من المصالح الأوروبية. لهذا إن الحروب التي خاضتها أمريكا ضد القارة الأوروبية هي دليل واضح وصريح على استخدام واشنطن لأوروبا كمطية لخدمة مصالحها، فقد كان الهدف الثابت والدائم للمؤسسة الأمريكية وللمحافظين الجدد التصدي لأي محاولة تقارب بين ألمانيا وروسيا خوفاً من أي تهديد قد يسببه هذا التحالف على مصالحها فهي تريد أن تتخلص من أي نفوذ لموسكو على القارة الأوروبية، لأن الحروب المتلاحقة على أوستيا وجورجيا وأوكرانيا كان لها هدف مزدوج وهو الهجوم على الاتحاد الروسي وإضعافه وخلق مناخٍ معادٍ لموسكو في أوروبا، وقطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين الشرق والغرب.

روسيا والغرب
لقد شهدت السنوات الأخيرة تدهوراً غير مسبوق تاريخياً في العلاقات بين روسيا والغرب وذلك على خلفية الانقلاب الذي حصل في أوكرانيا والتنازع الذي حصل على جزيرة القرم والذي انتهى بعودتها إلى حضن روسيا الأم واستعادتها للوحدة مع روسيا كوحدة إدارية في روسية الاتحادية، بالإضافة إلى الأعمال العسكرية التي قامت بها كييف ضد دونباس على إثر النزاع الذي حصل بين الطرفين، وحينها أرسل انتخاب ترامب إشارات مربكة للأوروبيين بما يخص علاقتهم مع روسية ففي البداية بدا أن ترامب عازم على إقامة علاقات جيدة مع الرئيس الروسي في مواجهة المعارضة القوية من الحلفاء الأوروبيين كفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، ولكن هذه الرغبة في إقامة علاقات ودية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسية قُوضت لعدة أسباب مجتمعة تتعلق بعدم خبرة ترامب ومستشاريه الجدد الذين عينهم في إدارته فضلاً عن السياسات الأمريكية السابقة التي سبقت ترامب.
و كان لهذا الاضطراب الجيوسياسي عواقبه على الألمان من ناحيتين أساسيتين، ففي المقام الأول ساهمت بتعزيز التعاون في مجال الطاقة والاقتصاد مع موسكو وخاصة فيما يتعلق بمشروع “نورد ستريم 2” لنقل الغاز، ولكنه من الناحية الأخرى أوجد لترامب أصدقاء في الدول الأوروبية يتقاسمون معه العداء لروسية كـ بولندا. ولكن مواقف دونالد ترامب وشعاره الذي اتخذه ( أمريكا أولاً ) أعطى الأوروبيين بعض المساحة للمناورة والحصول على مستوى معين من الاستقلالية بعد أن اتسعت الخلافات بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على خلفية انسحاب واشنطن من عدد من الاتفاقيات المهمة كمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (معاهدة الحد من الأسلحة النووية)، وخطة العمل الشاملة المشتركة حول البرنامج النووي الإيراني التي كان لها تأثير مباشر على أوروبا من حيث الأمن والاقتصاد مما دفع أوروبا إلى مضافرة جهودها مع موسكو وحلفائها وبخاصة في بكين، فقد قدمت الصين لأوروبا عروضاً اقتصادية جيدة (وتعتبر اليونان مثالاً حياً للتعاون والمنفعة المتبادلة بإقامة ميناء بيرايوس كمشروع ناجح بين اليونان والصين) ضمن إطار الاندماج الكامل في مبادرة الحزام والطريق وهو مشروع متنوع لتطوير التجارة وتوسيعها بين عشرات الدول مما يجعل من السوق الأوروبية سوقاً رئيسية لتصريف البضائع الصينية، ولكن هناك عقبة رئيسية واحدة تقف في وجه هذا المشروع في الوقت الحالي تتعلق بقطارات الشحن والتي غالباً ما تبدأ رحلتها إلى أوروبا بحمولة كاملة ولكنها تعود فارغة تقريباً في رحلة العودة إلى الصين، ولكن بكين والعواصم الأوروبية أدركت أهمية هذه العقبة وعملت على تجاوزها من أجل الحفاظ على الديمومة الاقتصادية لمشروع الحزام والطريق ليعود بالفائدة على كلا الطرفين، علاوة على ذلك حصل نوع من الترابط التكنولوجي بين الصين وأوروبا بفضل أجهزة “هواوي” التي تشتريها الشركات الأوروبية بأعداد متزايدة، لكن واشنطن أعلنت الحرب على شركة “هواوي” الصينية فبعد أن كشفت تسريبات أدلى بها إدوارد سنودن لـ “ويكيليكس” عن وجود وحدة متخصصة في وكالة الاستخبارات الأمريكية عملت على تطوير برنامج لاختراق هواتف “سامسونج وآبل” تمكنها من الاطلاع على المحادثات حتى بعد إغلاق الهاتف، أصبح لدى الإدارة الأمريكية مخاوف من أن تستغل الصين نهضتها التقنية في التجسس وانتهاك الخصوصية بخلاف الدول الغربية، فترامب يزعم أن أجهزة “هواوي” تشكل تهديداً أمنياً فبعد أن كان التجسس والاختراق ميزة متفردة تتمتع فيها الولايات المتحدة الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية ووكالة الأمن القومي جاء انتشار أنظمة “هواوي” ليفقدها تفوقها في مجال التكنولوجيا.
لقد اكتشف الحلفاء الأوروبيين هذه الخاصية التي تستفيد منها الولايات المتحدة الأمريكية لذلك عملوا على حماية أنفسهم باستخدام الأنظمة الصينية. لقد أثبتت جهود بكين نجاحاً كبيراً من الناحية التكنولوجية كما مهدت الطريق لتكامل اقتصادي مستقبلي بفضل مبادرة الحزام والطريق، وفي هذا الإطار جاءت مشاركة الدول الأوروبية كالمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا في البنك الآسيوي للاستثمار الذي يعرف اختصاراً بـ (بنك البنية التحتية) وظهر جلياً كيف ساهمت الاستثمارات الصينية لرؤوس الأموال الأوروبية بشكلٍ كبير في دعم الاقتصاد الأوروبي المضطرب.
أما فيما يتعلق بالمجال العسكري فقد شكل انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأسلحة النووية تهديداً على الدول الأوروبية ودفع روسية إلى اتخاذ إجراءات حاسمة جاءت رداً على إخلال الولايات المتحدة الأمريكية بالتزاماتها بموجب المعاهدة فرد الرئيس الروسي بأن روسية ستعلق مشاركتها في المعاهدة وستسعى لتطوير صواريخ متوسطة المدى رداً على ما قال إنها مشاريع مماثلة تقوم بها الولايات المتحدة، هذا التصريح أثار حفيظة الأوروبيين، فتطوير روسية لجيل حديث من الأسلحة يعني أن أوروبا ستكون كبش المحرقة الذي ستضحي به أمريكا لترضي غرورها، وفي الوقت نفسه تريد أمريكا التي تبعد آلاف الأميال عن أوروبا التخلص من حلف شمال الأطلسي والذي يقوم بدوره بمطالبة الأوروبيين بإنفاق المزيد من الأموال على ترسانة الأسلحة الأمريكية، ويطالبها بالحد من الاستثمارات الصينية الروسية في أوروبا، ولكن على ما يبدو فإن تحرر روسيا من معاهدة الحد من الأسلحة النووية مقترنة مع الإمكانيات والقدرات التقليدية والنووية لموسكو ستسهم في تعزيز المحادثات الدبلوماسية بين روسية وأوروبا دون أن يكون للولايات المتحدة الأمريكية أي فرصة لتخريب مستقبل الاتفاقات بين الطرفين.

التخلص من التبعية لواشنطن
من الواضح أن لدى الدول الأوروبية رغبة جدية بالتخلص من التبعية لواشنطن ووضع مصلحتها فوق مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة فيما يتعلق بالأمن، لقد استخدمت روسيا أدواتها الحاسمة لتحد من نفوذ واشنطن على أوروبا ولتحتوي الفوضى التي أطلقتها السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية، فبذكائها السياسي تمكنت روسيا أولاً من تطوير ترسانتها التقليدية النووية لتكون رادعاً يقف في وجه أمريكا ويجبرها على الكف عن إثارة الفوضى، أما السبب الثاني فكان امتلاكها لحقول ضخمة من النفط والغاز الطبيعي المسال التي تقوم بتصديرها إلى السوق الأوروبية بكميات كبيرة.
وإن تضافر هذه الأدوات سمح لموسكو باحتواء الفوضى التي أطلقتها الولايات المتحدة في جورجيا وأوكرانيا كما وضعت حداً لتدخل أمريكا في الشؤون الداخلية لأوروبا وهذا ما رأيناه في ألمانيا فيما يتعلق بمشروع “نورد ستريم 2” مما أجبر برلين على الاعتراف بأنها لا تستطيع التخلي عن إمدادات الطاقة الروسية مما زاد من التوتر بين برلين وواشنطن التي كانت تسعى جاهدة لاستبدال الغاز الروسي بالغاز الأمريكي الأغلى سعراً والذي تقوم بشحنه عبر المحيط الأطلسي.
لهذا إن القوة الاقتصادية الصينية مقترنة مع الردع العسكري الروسي بالإضافة إلى الاعتماد الأوروبي على إمدادات الطاقة الروسية كشف النقاب عن حقيقة عدم قدرة أوروبا على تحمل حليفها الأمريكي وتصرفاته الاستفزازية التي يقوم فيها ضد المحور الصيني الروسي، فضلاً عن ذلك فإن أوروبا أثقلت من عبء الحروب الأمريكية في الشرق الأوسط وما جرته عليهم هذه الحروب من تدفق للمهاجرين بأعداد كبيرة شكلت عبئاً إضافياً عليها.
كل هذا ساعد على تولد نوع من الاستقلالية الاستراتيجية التي يمكن أن تتجلى في حجم التبادل التجاري وإحداث أنظمة دفع جديدة تحل محل الدولار في إطار الجهود الروسية الصينية لتقليل الاعتماد على الدولار، حيث تم عقد اتفاقيات للتعامل بالعملة المحلية للدول المتعاقدة كما حصل عندما أعلنت الصين أنها ستدفع ثمن وارداتها من النفط الإيراني باليوان الصيني، كما تجلت رغبة أوروبا في الاستقلالية عندما أبدت فرنسا وألمانيا دعمها الدبلوماسي المحدود أو حتى المعدوم لموقف أوكرانيا المناهض لروسيا والذي يمكن أن يعتبر علامة أخرى على أن الأوروبيين أصبحوا أكثر استقلالية، وخاصة بعد مؤتمر ميونخ الأمني الأخير الذي عقد في مدينة ميونخ وشارك فيه 21 دولة على رأسهم الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو.
لذلك فالاتحاد الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي الذي قامت فيه روسيا والصين في أوروبا كان من دون شك أقل محدودية وفعالية في أوروبا بالمقارنة مع أجزاء أخرى من العالم كالشرق الأوسط وآسيا، إلا أن الخطاب السياسي الذي تقوم وسائل الإعلام بتضخيمه والذي يعارض التعاون بين روسية والصين وأوروبا لا يخدم إلا مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، فروسية والصين نجحتا باقتراح بدائل قابلة للتطبيق عن النظام العالمي آحادي القطب في واشنطن، وقدموا للدول الأوروبية استراتيجية تساعدهم على التحرر والاستقلالية التي لم تكن لتتاح لهم بوجود نظام عالمي آحادي القطب كالنظام في واشنطن، ومن غير الواضح بعد فيما إذا كانت العواصم الأوروبية ستتجه إلى موسكو بدلاً من الولايات المتحدة لشعورها بالنفور من سياسة ترامب أم أن هذا التغيير هو تغير مؤقت إلى حين انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية يؤمن بالليبرالية، أو أن ما يجري من تغيرات سيكون بداية لسلسلة من الاضطرابات التي من شأنها أن تعيد تشكيل النظام العالمي تدريجياً من نظام آحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب مع الأخذ بعين الاعتبار أن أوروبا ستكون أحد هذه الأقطاب.