نزار صابور.. البحث عن شرعية النص البصري
تُعرض في المركز الوطني للفنون البصرية هذه الأيام أعمال التشكيلي نزار صابور الفنان الحاضر بتميزه في المشهد التشكيلي منذ أكثر من ثلاثة عقود ولا زال يجتهد ويبحث في عوالمه التشكيلية الواسعة، وقد عرض تجربته الكبيرة معززا إياها “بنواويسه” التي تجسد تعريفا غرافيكيا خاصا مثّله صابور ببعض العلامات الثقافية السورية التي يؤمن بدورها وإرثها، وفي هذا الجانب قد يتسع الحديث فيما يخص الفنان التشكيلي وعلاقته بالشاعر والناقد والروائي وعلاقته بأساتذته وزملائه من الفنانين الذين يؤمن بهم صابور وبالطبع لن تكون هذه العائلة من المبدعين لولا خصوبة الرؤية وتوفر المكافئ الإبداعي فيما بينهم، هذا المعرض المقسوم بين اللوحة التقليدية والمعلقة الشخصية التي احتلت الجناح الغربي من صالة المعرض وصبغته بصبغتها غير المتوقعة من اللوحة المعلقة المشابهة لإخراج القيد العاطفي بشكله الغرافيكي الخاص بنزار صابور صاحب الخبرة المعروفة ببحثها التقني المتفرد والمصبوغ بحالة روحانية متفردة تجانب عوالم الأيقونة البصري وليس الديني، يعزز هذا العالم التشكيلي ويغتني بمجسات وأسئلة خفية يتقن الفنان التلميح فيها عن خواطرها العميقة حول دور الفن ووظيفته وعن لغة إشكالية تتولد بفعل التلقائية القائمة على خبرة المصور والملون والمؤلف الذي يتجول بأفكاره مفتتحا في كل تجربة جديدة إشكالية موضوعا مختلفا عما قبله من معارضه.
ينتمي نزار صابور إلى مرحلة تشكيلية واضحة أسس لها أسماء كبيرة مثل فاتح المدرس ومحمود حماد ونذير نبعة وآخرون وقد شاركهم هذا التأسيس التشكيلي كوكبة من أصدقائهم الأدباء والمفكرين الذين عاصروا تحولات سياسية عميقة وتأثروا بها وأثروا في الجيل اللاحق على المستوى الثقافي والإبداعي، كما رافق نزار كوكبة من الأصدقاء المشتركين في هموم متشابهة، استحق هؤلاء استذكارهم تشكيليا من خلال المعلقات التي قدمها صابور، والتي لن يتسع المقال للرأي هنا حول لوحات “النواويس” التي قاربت السبعين معلقة!؟.
واللافت في دليل المعرض المتضمنة مقدمته أكثر من 15 شهادة يعود بعضها إلى عام 1993، ونقتطف هنا ماكتب في نص منذر المصري في نصه الذي لايخلو من حساسية الشاعر وتوجساته الحساسة والمثقفة حول ذلك فيقول: من البديهي أن قيمة أي عمل فني بالنسبة للمشاهد الصحيح تأتي من العمل نفسه، لا مما قيل عنه ومن كان قائله وأن معرضا كهذا لن يشفع له إذا لم يكن معرضا جيدا ومميزا، وكل هذه الشهادات على كثرتها وعلى أهمية ما كتب فيها، بل ربما على العكس فهي تبدو وكأنها مصادرة لرأي المشاهد ومحاولة غير بريئة للتأثير عليه، إلا أنها في النهاية ليست بلا دلالة، لا بد أنها تعني ما تعنيه بل يجب على المرء وعلى المبدع خاصة أن يشك بنفسه وألا يصدقها من حين لآخر ولكن لا يمكنه، ألا يصدق ما يقوله الآخرون عنه، ما يرونه جميلا أو بشعا فيه وأكثر ما يتوقعونه أو يأملون منه، احسب أن هذا ليس من حقه.
كما كتب نزيه أبو عفش عن تجربة نزار عام 1993: هو ذا شاعر لون ورهافة وأحلام، شاعر حقيقي يعيد بناء عالمه بشغف نبي أو عاشق أو ساحر أسطورة، كأن الأرض لديه غير الأرض والمادة غير المادة، أو كأن العقل في لحظة سحر ما يستعيد موقعه الأولي في مركز القلب، شاعر نور نكاد بأعيننا أن نلتقط صيحة روحه ونتحسس غلافها الرهيف، كأن أعماله مصنوعة من شعاعات وأحلام وألياف قلب، النور لديه لا يسيل على الكائنات والأشياء، بل ينبع منها تماما كما النبضة قلب العاشقة، فضاء يتنفس نورا، حجارة مقدودة من نور, نوافذ وأعتاب طافحة بالنور، وجوه البشر معجونة بعصارة النور، حيث يغدو النور المقلع الأساسي الذي يستمد منه نزار صابور مادة عمارته ويجمّل بها أنقاض العالم.
فيما وصف الناقد والفنان الأردني محمد العامري عام 2001 : تشكل لوحة صابور بحثا في مفردات المشهد الشعبي بوصفه مكانا خصبا لإنتاج لوحة شرقية ذات أبعاد عالمية، وذات حضور فاعل أمام صرعات الفن التشكيلي الغربي، فهو يطل من أيقونته الروحية الخاصة مفتشا عن جماليات أطباق القش وعرائش القصب مؤسسا بذلك خطابه البصري المنتمي إلى وجدان الذاكرة الشرقية بكل ما تحمله من فضاءات جمالية ذات رؤية متجددة تنقلنا من الذاكرة الأولى إلى منطقة إعادة إنتاج الذاكرة وتثويرها من جديد عبر تسريب النص الشعبي بمفهومه الجديد، إلى صالة العرض ومفهوم اللوحة المسندية التي تجمع شتى صنوف التقنيات، من أجل إعطاء نصه البصري شرعية وجوده الجمالي دون الانسلاخ عن جذر المرئيات المعاشة.
وأضاف الناقد أسعد عرابي أيضا: أعماله أشبه بحجرة عزلوية زاهدة أو خلوة اعتكاف تصوفية مطهرة من آثام العالم الاستهلاكي وكلما زاد المشاهد توحدا، انطوى على خصائص عالمه الذاتي.
كما أُدرج ما كتبه أخيرا الناقد فاروق يوسف في دليل المعرض: التراث من جهة والشعر من جهة أخرى هما طرفا المعادلة التي زوّد صابور عناصر توازنها بالكثير من خياله وخبرته ومهارته وتمكنه التقني من المواد الطبيعية، طوّر رؤية شخصية للتراث فلم يتعامل مع الوحدة الجمالية المستعارة باعتبارها أثرا مقدسا لا يمس بل أضفى عليها شيئا من الحياة لكي تسمح له أن يلعب معها ومن خلالها، أما الشعر فقد كان ملهمه الغامض الذي فتح أمامه أبوابا أطل من خلالها على حدائق لونية لم تكن لترى لولا الانفعال الذي يجعل منه الشعر شرطا للحياة.
ومما جاء في شهادة الناقد سعد القاسم: “صابور أحد الذين لا يسترخون مع بهجة الانجاز ولا يكبلهم النجاح مهما تلاقى مع الطموح فيجعلهم أسرى حالة تشكيلية أحبها المشاهد أو المقتني، ولذلك تصبح العودة إلى تاريخ تجربته أمرا حتميا في كل مرة يجري الحديث عن مرحلة جديدة فيها، فتلك مهما نأت وتباينت عن سابقتها، لا بد للعين المدققة أن تكتشف من تجلياتها ذكرى من لوحة أقدم وجذورا ممتدة إلى مرحلة نعتقد أن الفنان غادرها دون عودة”.
هذه الشهادات على أهميتها ربما أوقعت هذا المعرض الهام في مطب التبريرية أكثر من تأكيد فكرة التقديم المقنع والاستهلالي لأي نشاط تشكيلي بات معروفا وبالأخص حينما يكون لقامة كبيرة مثل نزار الذي لا يحتاج إلى كل هذا الكم من الشهادات المطبوعة في البروشور الذي لم ينجُ من لغة الترويج والحشد المبالغ ليس إلا..وللحديث بقية!؟
أكسم طلاع