كائنات من ضوء.. عندما يكون الوجع خلفية ناتئة للفن
مرة أخرى يعود الوجع السوري ليظهر على خشباتنا المسرحية، وذلك في العرض المسرحي “كائنات من ضوء” الذي جاء ضمن فعاليات مهرجان دمشق الثقافي، وتم تقديمه على مسرح الحمرا بدمشق، بعد أن كان قد تم عرضه العام الماضي أيضا، لكن العرض في هذا الاتكاء على الواقع، لم يقصِ الرمزية الممزوجة بالواقعية والتي جاءت في الموسيقى والأزياء وحتى في طبيعة الحالة التي حملها العرض المكون من عدة لوحات، كل لوحة تحاكي بطريقة ما الهم السوري بتشعباته، وانعكاسه على أبناء المجتمع السوري، فتلك العروس التي تنتظر حبيبها العائد من الحرب، تحلم كل يوم مع مرآتها بعودته سالما فحبيبها مثلها ينتظر أن تنتهي هذه الحرب ليتزوجا، وعندما يعود فإنه يعود صامتا لا ينطق ولو بحرف في دلالة على الروح التي نالت الحرب منها وأوهنتها.
كائنات من ضوء الذي كتبه وأخرجه “حسين الناصر” اتكأ على ما حمله ويحمله هذا الواقع من ارتدادات عنيفة على الناس، فالحرب أكلت من قلوب الجميع وأرواحهم، وهذا ما اشتغل المخرج على جعله واضحا بينا في العرض الذي امتد ساعة من الزمن، بمزاوجة بين الواقعية الصرفة والرمزية المتوارية في ظلال الحوار والشكل العام للعرض، منتقلا من لوحة لأخرى في تبيان الخط البياني للوجع الذي حمل الكثير من السوريين للتفكير بالهجرة بعد الويلات التي عاشوا تفاصيلها،-واحدة من اللوحات المقدمة في العرض- ومنهم من كان مرتبطا بحبيبة قاطعا لها عهود حب، ويقرر السفر، لكن موت حبيبته، جعله يُمزق جواز سفره، فهاهنا نحيا بآلامنا كما أفراحنا، وها هنا نموت.
العرض رغم الألم فيه مسحة من الأمل، عدا عن كون الغناء الذي رافق بعض اللوحات، جعل من المحتوى العام للعمل، ذو فنية مسرحية جيدة، خصوصا إذا عرفنا أن طلاب جامعة البعث هم من قدموا هذا العرض من ألفه إلى يائه، كل بطريقته وشخصيته، التي والف بينها الإخراج في اللوحات الخمس التي حملها العرض، وكل لوحة تتقاطع مع الوجع السوري من جهة ما، وذلك من جهة تأثيرها المباشر وغير المباشر على الحياة والناس الذين حلت بينهم، إلا أن تقديم خمس حكايات، في زمن واحد، يحتاج إلى مرونة أكثر في تلك الممازجة، التي لا يفترق فيها الهم العام عن الهم الخاص، فواحدة من المشاكل التي قدمها “كائنات من ضوء” هو تسليطه بقعة ضوء قوية على العقلية التي لا زالت تتحكم بالعديد من العادات والتقاليد البالية، تلك التي لم يزل مجتمعنا حتى اليوم، ورغم وجع الحرب وألمها محافظا عليها، كما في حالة الصبية التي تقع في غرام أحدهم، إلا أن الدين لا كحالة، بل كخلفية رجعية موجودة حتى اللحظة في الوعي الجمعي عندنا، يعوق هذا الحب، فالوالد لن يرضى بهذا الزواج المدني، وهذه اللوحة حملت بعض المفارقات التي نحت صوب الكوميديا السوداء، من خلال المفارقات الكوميدية التي حملته، تخفيفا ربما لكثافة الألم الذي تتضمنه في إيحائها وفي تصريحها.
عموما تناولت أغلب لوحات العرض، في خلفيتها الحكائية وجع الحروب وأثرها القاسي على الناس الذين يحيون على إيقاعها، فهذا الوجع لا زال في الوجدان، ولم يخف بريق وجعه بعد، وهذا تدل عليه روح العمل، الذي قرر صُناع فرجته أن لا يكون منفصلا عن الواقع، ولو تم جعل الرمزية بذلك كحامل من حوامل العرض، محاولا من خلال عدة لوحات تقديمه ولكن على جرعات حملتها كل لوحة على حدة، ولا بد من ذكر الجهد الذي بذله طاقم العمل ككل، بغض النظر عن المستوى الفني للعمل وقيمته الفكرية، فهو عمل مسرحي مقدم للناس، ولا يتعامل بفوقية معهم، بل جعلهم يتلمسون الجراح التي لم تندمل بعد، وفكرة تقديمه كلوحات هي الأكثر منطقية، فعدة لوحات بسيطة تحمل كل واحدة منها مقولة ما، تلج إلى نفوس الحضور بيسر أكثر من النص الواحد، ولو أنني شخصيا في المسرح، لست مع العروض التي تقدم هذا الشكل من المسرح، فهذا تفكير تلفزيوني لتقديم عرض مسرحي، أيضا لا بد من ذكر ضعف الأداء في مكان ما من العمل، وارتفاع وتيرته في أماكن أخرى.
العرض المسرحي “كائنات من ضوء” يعيد التذكير بأكثر ما مر على البلاد من قسوة، خروج الناس من بيوتها، والشعور بالخوف الدائم، وما يجعله مبررا هو الموت الذي يحوم في المكان، وربما يكون هذا العمل نواة لعمل مسرحي أكثر حرفية مستقبلا، إن كان في النص أو الإخراج وفي عموم السينوغرافيا التي ساهمت في تشكيل صورته وتقديمها بأفضل ما يكون، وحتى في الأداء الذي جاء متفاوتا بين ممثل وآخر، وهذا عموما، يحتاج للعمل وبذل جهد أكبر في جعل الأداء منضبطا وفق إيقاع العمل نفسه، وهذا ما نتمناه لأولئك الشباب، الذين جهدوا ليقدموا الجمال، في ظل البشاعة التي نحيا على تقلباتها.
نمّام علي بركات