الجهل الإجباري
وسام محمد ونوس
(اللي ما بتعرفو بتجهلو) يبدو هذا المثلُ للوهلةِ الأولى ساذجاً وبديهياً جداً، فأنت حتماً تجهلُ من لا تعرف، لكنّ القصدَ أعمق من هذا التفسير. المقصود بالمثل هو أنك تستطيعُ بسهولةٍ أن تحكمَ على النّاسِ كيفما شئتَ، وأنتَ تجلسُ في بيتك، وتدخّن سيجارتك ربما، أو تتناول وجبتك المفضلة، لكن حُكمَكَ هذا لن يكونَ دقيقاً أبداً طالما لم تقتربْ من الشخص المُحاكَم، وتتعرّف عليه بنفسك، تجالسهُ، وتحادثهُ، وتستمعُ إلى صوتهِ، وضحكتهِ، وأنين حزنه، وربما ترى انفعالهُ، وضعفهُ، وجبروته أيضاً. الجهل في هذا المَثَل يعني البُعد عن الآخر، البعد المكاني، والبعد النّفسي، والبعد الشعوري. الحُكمَ المبنيّ على موقفٍ فقط، أو كلمةٍ قِيلتْ في حضرتك، أو ربما ردّ فعلٍ منكَ على ما لم تفهمْهُ منه! إذاً، أنتَ تجهلُ مَنْ لا تعرفُ حقيقته، من لا تدركُ ألمه، من لا تشاركهُ أسبابَ فرحه، من لا تحاول الاقتراب منه.
دعونا نُزيل حرف (ما) من المَثَل ليصبح: (اللي بتعرفو..بتجهلو)، ولنفكّر قليلاً في المعنى الجديد. في المنطق لا نستطيعُ أن نجهلَ ما نعرف، أو مَنْ نعرف، وعلى أرض الواقع نحن نجهل تماماً كل مَنْ نعرف وما يحدث! نحن نجهل تفاصيلَ ما نعلم، نجهلُ الحقيقةَ في ما نعلم، ونكتفي بالقشور، لا نخوضُ غمارَ الفهمِ العميق لما نظنّ أنّهُ واضحٌ لنا وجليّ، وكأننا أصبحنا طلّابَ عناوين، لا باحثينَ عن المعنى بين السّطور.
ربّما نستطيعُ أن نسمّي هذا الجهل: الجهل الإجباريّ!.
الأخبارُ العاجلة، الجُمل القصيرة المكثّفة، الاختصارات في الكلام والمحادثة، كلّها تداعياتُ كسلِ العقل، ونتائجُ رغبتنا في المعرفةِ المحدودة لما يحدثُ حولنا. وكأننا لا طاقةَ لنا للخوضِ في التفاصيل، أو محاولةِ التفكيرِ، وربط الأحداث للوصولِ إلى نتيجةٍ واضحة. في هذه الحالة، المعرفةُ متاحةٌ لنا لكننا لا نُريدُها، أو بصراحةٍ أكبر، لا نشعرُ ربّما بحافزٍ لزيادةِ معلوماتنا حول حادثةٍ ما، أو للتوسعِ الفكري في قضيةٍ شائكة. البعضُ يعزو السّبب إلى (زمن السرعةِ) الّذي نعيشه، والتطوّر في كل المجالات الّذي أدّى إلى تقلّص اعتمادنا على القدرات العقلية، فأصبح كلّ شيءٍ متاحاً ومتوفراً دون حاجةٍ منّا للبحث والتحرّي. والبعضُ الآخرُ يرى أننا، في الدّول النامية عموماً، مشغولونَ في نزاعاتٍ وحروبٍ لم تتوقّف، وهذا الانشغال الدّائم أثّر على طريقةِ تفكيرنا ومحاكماتنا العقلية، بل يكاد يكونُ وجّه عقولنا باتجاهٍ واحدٍ ومنَعَنا من التحليق بحريةٍ في فضاءات البحث. لا شكّ أن السّببينِ مقنعان، ولا شكّ أن الأسباب تختلفُ من مجتمعٍ إلى آخر، ومن شخصٍ إلى شخص، بالطبع هناكَ أسبابٌ أخرى أحدُها وأبرزُها ربّما: التّعبُ النّفسي. ليس من العدلِ أن نطلبَ من باحثٍ عن لقمةِ العيش أن يفكّرَ في قضيةٍ جدليةٍ لا يشعرُ أنها تعنيه، فهو في حالةِ جريٍ متواصلٍ لإطعامِ الأفواه الجائعة، وتأمينِ ما يلزم لاستمرارِ الحياة، وليس من المنطقِ أن نناقشَ مَن فقدَ أعزاء في تفجيرٍ إرهابيّ، ونستغربُ لا مبالاتهِ تجاهَ حدثٍ ثقافيّ أو أمسيةٍ شعريةٍ أو عاصفةٍ رمليّةٍ مُفتَعَلة! الأسئلةُ التي يطرحها العقل هي الّتي تقودُنا إلى المزيد من المعرفة، وتفرضُ علينا البحث عن أجوبةٍ شافيةٍ، لكأن تلك الأجوبة هي الغذاء اللازم للعقل لكي يستمر. لم نعُد نسأل، وإن سألنا لم نعد نهتمّ إن وجدنا الجوابَ أم لا. تعوّدنا على غيابِ الأجوبة، تعوّدنا على حضورِ الغموض. باتَ أمراً طبيعياً جداً أن نتوهَ في غياهب الألغاز، ما مِنْ شيءٍ واضحٍ حقاً، كلّ ما يحدثُ لنا غير اعتيادي، كلّ ظروفِنا طارئة، معجونونَ دوماً بالانتظارِ والترقّب، فكيفَ لنا أن نستغربَ فوضانا. الجهل الإجباريّ، الجهل المفروضُ علينا من حيثُ لا ندري، الجهل المُرادُ لنا، الجهلُ المدروس كنتيجةٍ حتميةٍ لما نعانيهِ من مشاكل سياسيةٍ واجتماعيةٍ ومعيشية. نعم، أصبحتُ مقتنعاً تماماً أننا، أحياناً كثيرةً، نتقصّدُ أن نجهل، لأننا ممتلئونَ بالأسئلة، والعقلُ لا وقتَ لديهِ سوى للهمّ، والتفكيرِ في اللحظةِ التالية، في القذيفةِ التالية، في اللقمةِ التالية، في الحزنِ والحزنِ الآخر. نحنُ نجهلُ ما لا نعلم، ونجهلُ أيضاً جلّ ما نعلم، لا طاقةَ لنا للعلمِ، لا وقتَ للتحليلِ والتّفسيرِ والمشاركة في قضايا العالم الفكرية. نستهلكُ ذواتَنا في نزاعاتٍ، إن انتهت، خلقْنا غيرَها لنستمر! الانشغال الدائم بالنزاعات، والتطور الّذي ما فهمنا منه سوى الاستهلاك، والتّعب النّفسيّ والاجتماعي والمعيشيّ، وأسبابٌ أخرى كثيرة، ربّما جعلت منّا شعوباً ترضى بالقليل مادياً وفكرياً، وتظنّ أن لا حاجةَ لها للمعرفةِ إلا بحدودٍ شكليّة، طالما أن جلّ اهتماماتها مخصّصٌ مسبقاً لتأمينِ أبسط أسباب الحياة.