“بريكست” قد تطيح بالاستخبارات البريطانية
هيفاء علي
بين الحماس الذي رافق روايات “جون لو كاريه” والاهتمام اللا متناهي بالسلسلة الشهيرة لأفلام جيمس بوند، عملت بريطانيا لفترة طويلة على ترسيخ صورتها كبلد منتج لجواسيس من طراز رفيع. في الواقع، تقوم هذه السمعة على أكثر من مجرد أسطورة. فعلى امتداد عقود، سواء كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية أو بعدها، مثّل العمل المُضني والمكثّف لضباط المخابرات البريطانية أحد المصادر الرئيسية لنفوذ المملكة المتحدة. إلا أن هذا النفوذ وركائزه الأساسية يواجه اليوم خطراً بسبب انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، حيث من المحتمل أن يكون لهذا القرار سلسلة متعاقبة من التداعيات على الاستخبارات البريطانية، بما في ذلك إقصاء بريطانيا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي لطالما خدمت الأمن القومي البريطاني. علاوة على ذلك، قد تتأثّر العلاقة المميّزة بين الاستخبارات البريطانية والولايات المتحدة ويعتريها الفتور، إذ من المرجّح أن تسعى هذه الأخيرة إلى تعزيز العلاقات مع بروكسل. في المقابل، على الرغم من أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أصبح أمراً حتمياً، إلا أن هناك أساليب أخرى بإمكانها أن تُجنّب المملكة المتحدة هذه العواقب.
عُرف كل من المكتب الخامس التابع لجهاز الأمن الاستخباراتي البريطاني، الذي يتعامل مع المكتب السادس لجهاز الاستخبارات السرية بصفته المسؤول على الاستخبارات الخارجية، إلى جانب مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية التي تهتمّ بعملية استخبارات الإشارات داخل البلاد وخارجها بأنها بمثابة “رولز رويس” أجهزة الاستخبارات. حيث تُظهر الملفات التي رُفعت عنها السرية قبل 20 سنة تقريباً، أنه خلال ستينيات القرن الماضي، أوصت لجنة الاستخبارات المشتركة، بصفتها أعلى هيئة لتقييم الأداء الاستخباراتي في بريطانيا، رؤساء الوزراء المتعاقبين بضرورة الانضمام إلى أوروبا، لأنه في هذه الخطوة عامل بالغ الأهمية يخدم التوجّه الاستراتيجي المستقبلي لبريطانيا. وتمثّل هذه الطريقة الوسيلة الوحيدة التي تخوّل البلاد تفادي الركود الاقتصادي وحماية علاقتها المميزة مع واشنطن التي تعتبر أن قيمة المملكة المتحدة تكمن في وجودها داخل أوروبا لا خارجها. ووفقاً لسجلات موجودة في مكتبة جون كينيدي الرئاسية، ترى الولايات المتحدة أن لندن حليف جدير بالثقة تشاركها طريقة التفكير ذاتها، كما أنه قادر على ممارسة نفوذ على الأعضاء الأكثر إثارة للمتاعب في أوروبا.
فبعد انضمامها للمفوضية الأوروبية سنة 1973، أصبح لبريطانيا دور مهمّ في اتخاذ القرارات الأوروبية الرئيسية، التي أثبتت نجاعتها بالنسبة للولايات المتحدة في القضايا المتعلّقة بالإستراتيجية العسكرية والتجارة. وفي حال غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، فمن المرجح أن يدفع ذلك واشنطن إلى الاعتقاد بأن لندن لم تعد تكتسي مكانة إستراتيجية مهمّة. ومن المحتمل أن يجعل هذا الأمر الإدارة الأمريكية تعيد تقييم علاقتها ببريطانيا، أو أنه سيكون من الأفضل لها تقوية علاقاتها الاستخباراتية مع الاتحاد الأوروبي.
من جانبهم، أشار مؤيدو انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، إلى أنه بعد انضمام البلاد إلى الاتحاد، واصلت وكالات الاستخبارات البريطانية العمل مع دول الاتحاد الأوروبي على صعيد ثنائي، وليس مع الاتحاد ككل. لذلك، فإن الانسحاب من هذه المؤسسة الدولية لن يشكّل فارقاً. لكن، تلك النظرة المتفائلة لم تأخذ بعين الاعتبار التداعيات الحقيقيّة لانسحاب البلاد على الأمن القومي البريطاني، علماً أن المملكة المتحدة استفادت من عضويتها في الهيئات التابعة للاتحاد الأوروبي على غرار وكالة تطبيق القانون الأوروبية “يوروبول” ونظام معلومات “شنغن” الذي يزودها بمعلومات عن الإرهاب والاتجار بالبشر والجرائم الخطيرة الأخرى. في المقابل، وفي حال انسحبت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فلن يكون بمقدور بريطانيا ولوج مثل هذه المعلومات المهمّة، وهو ما جعل المسؤولين السابقين في الاستخبارات البريطانية يحذّرون بشكل علني، قبيل إجراء استفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سنة 2016، من أن مغادرة الاتحاد ستضرّ بأمن البلاد. ومنذ ذلك الحين، زادت عملية الخروج، التي شابتها الفوضى، من مخاوفهم بأنه في ظلّ توتر العلاقات الدبلوماسية في الوقت الحالي، من غير المرجّح أن تكون بريطانيا قادرة على إيجاد ترتيبات بديلة مماثلة مع الاتحاد الأوروبي.
في الحقيقة، وعند خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ينبغي على أجهزة الاستخبارات أن تتأقلم مع الوضع الجديد. وسيكون عالم الإنترنت الحل الواعد. وفي هذا الخصوص، تعتبر “مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية” وكالة عالمية رائدة في مجال الاستخبارات الرقمية. وقد كشفت الوثائق السرية التي سرّبها إدوارد سنودن سنة 2013 عن مدى تعاون هذه الوكالة مع وكالة الأمن القومي، حيث إنها استغلّت المنصات الإلكترونية لجمع المعلومات الاستخبارية.
وسيكون من الحكمة أن تضاعف بريطانيا ميزتها النسبية في مجال التقنيات الرقمية، وهو ما يبدو أنها الخطوة التي شرعت في القيام بها. في الواقع، يقوم كل من “مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية” والمركز الوطني للأمن السيبراني الجديد بتوظيف وتدريب العملاء الجدد على الخبرة السيبرانية، كما فعل “المكتب الخامس”، هذا الجهاز الأمني والاستخباراتي البريطاني الذي أشار إلى أن التجسّس باستخدام الطرق القديمة، التي يعتمد عليها جهاز الاستخبارات البريطاني، الذي يُعرف أيضاً باسم “إم آي 6″، سيكون مهماً حتى في ظلّ المجال الرقمي الجديد، وسيكون تعيين عملاء داخل مجموعات سيبرانية أجنبية وسيلة في غاية الأهمية للكشف عن أسرارها.
أقرّت الإستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني في بريطانيا للفترة الممتدة بين 2016-2021 بشكل علني ولأول مرة بأن البلاد تمتلك قدرات قرصنة هجومية، ويتمثّل أحد أهم المجالات المستقبلية المحتملة لنمو مجال المخابرات البريطانية في تعزيز هذه القدرات والقيام بهجمات إلكترونية على الأطراف الحكومية وغير الحكومية التي تشكّل تهديداً على أمنها، على غرار هجوم فيروس “ستوكسنت” الذي يُزعم أنه من صنع إسرائيل والولايات المتحدة ووقع اكتشافه سنة 2010، والذي استهدف برنامج إيران النووي.
مع ذلك، كانت بريطانيا تملك نموذجاً مفيداً في الماضي القريب، فخلال الحرب الباردة، قدّمت الإدارة المسؤولة عن الدعاية الغامضة المناهضة للاتحاد السوفييتي في البلاد، وهي إدارة أبحاث المعلومات، إجابات واضحة وسريعة ومبنيّة على حقائق بشأن تزوير الاستخبارات السوفييتية أو “الكي جي بي”، وبريطانيا نموذجاً للتعامل مع المعلومات المضلّلة اليوم، وستكون حكيمة في تحديث النهج الخاص بعصر وسائل التواصل الاجتماعي.
من الممكن أن تقوم أجهزة الاستخبارات البريطانية بالتجسّس على الاتحاد الأوروبي، وفي حال حصل هذا الأمر، فلا أحد من الأطراف الخارجية يمكنه أن يعلم مقدار المعلومات التي تملكها المملكة المتحدة. وحتى الآن، لم تُرفع السرية عن السجلات، إذ لبريطانيا تاريخ طويل في التجسّس على حلفائها. فقد اعترض مفكّكو الشفرات البريطانيون اتصالات الأمريكيين واطلعوا عليها قبل دخول الولايات المتحدة في الحروب العالمية الأولى والثانية. وخلال العقود الأخيرة، يبدو من المرجّح أن التعاون السياسي الاستثنائي واسع النطاق الذي ترتّب بالضرورة عن دخول الاتحاد الأوروبي، جعل التجسّس البريطاني على أوروبا محفوفاً بالمخاطر، والعكس صحيح. ولكن بمجرد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ستكون بريطانيا غير ملزمة بالتقيّد بهذه الشروط.
منذ بدء محادثات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أشارت شائعات إلى أن الاستخبارات البريطانية كانت تستهدف مفاوضي الاتحاد الأوروبي. وسواء أكان هذا الأمر صحيحاً أم لا، فمن غير المرجح أنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكون هناك علاقات تعاون متبادلة بين الجانبين في مجال التجسّس، وخاصةً التهديدات الخارجية المشتركة، وإمكانية اندلاع حرب باردة جديدة. كما سيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إجبار المخابرات البريطانية على الإجابة عن الأسئلة غير المريحة التي لم تضطر إلى مواجهتها منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تتمحور حول الأمر الذي يمكنها تقديمه ولا يستطيع غيرها القيام به.