“ترجمان الأشواق”.. فاكهة الموسم الدرامي
ثلاثة أسباب تجعلك تقرر أن تتابع مسلسل “ترجمان الأشواق”-بشار عباس-محمد عبد العزيز- أولا اسمه، الاسم الذي يحمله واحد من أجمل ما كتب الشيخ الأكبر “ابن عربي”-1156-1240-في الشعر “ترجمان الأشواق”، وهو أي الاسم يخدم بذكاء عدة تفاصيل، قد لا تبدو مهمة، ولكنها حقيقة من التفاصيل التي تستميل المشاهد دون أن ينتبه،لتجعله مشدودا لمتابعة العمل،فالاسم يحقق بهدوء تمهيدا عمليا ومُشتغلا عليه بعناية للدخول في اغلب الحلقات التي عُرضت حتى الآن، الجمال اللفظي الذي يحمله وما له من ايحاءات فيها من الدعة ما فيها، باستحضار شخصية كاملة من الشخصيات المؤثرة في التاريخ، ثم جعلها بالعنوان الأشهر والأجمل تفتتح العمل.
السبب الثاني يكمن في جوهر مشكلة عانت وما زالت تعانيها الدراما المحلية والعربية عموما، وهي عدم الاعتماد على النص-القصة- كحامل أساسي للعمل، بل الاتكاء على الجمال والإثارة لعارضة أزياء، تطورت حالتها وصارت (ممثلة)، يرافقها نجم سوري وسيم كما يجري، وهذا الأمر له أيضا ما يُبنى عليه عند المشاهد، المتشوق لفرجة تلفزيونية عائلية، دون أن يعتري العائلة الخجل وهي تتابع العمل، خصوصا بوجود العديد من الأعمال التي لا قصة لها، ولولا جرعة الإثارة العالية التي يقدمها ذاك المسلسل أو غيره من المسلسلات التي سادت منذ بداية الكساد الدرامي، لما كان لها من يتابعها، وهكذا يتفوق أيضا “ترجمان الأشواق”، إنه حكاية أولا، تتطور فيها ملامح الشخصيات بتقدم العمل، وهذه الحكاية -السبب الثالث- لم تُكتب لممثل أو ممثلة بعينها، وهذا ما يتضح ومنذ الحلقات الأولى، فالشخصيات هنا في خدمة النص وليس العكس.
ثلاثة أصدقاء بميول سياسية يسارية، تدور بهم الأيام، وتتبدل مصائرهم، أحدهم يترك البلد ويسافر بعد أن كان سجينا سياسيا، “نجيب” أدى دوره-عباس النوري، أما الصديق الثاني، والذي يرمز لليسار العربي عموما، وما يجلبه بحضوره من انهيار مجموعة نظم هذا اليسار الأخلاقية والاجتماعية، في إسقاطات متنوعة على العديد من الخيبات والانكسارات الصادمة اجتماعيا وإنسانيا، التي كنا شاهدنا العديد من نماذجها في الواقع المعاش، فالصديق الثاني “كمال” لعب دوره “فايز قزق”، بقي على مبادئه السياسية رغم كل ما حصل في العالم من تغيرات عقبت انهيار الاتحاد السوفيتي بداية تسعينيات القرن الماضي، وما خلفه هذا الانهيار، من سيطرة تامة للرأسمالية والبرجوازية على العالم؛وفي واحد من الحوارات التي تجمعه بابنته، يظهر “كمال” وعلى سترته شعار “الماركسية”، وخلفه تظهر صورا ومجسمات لـ “ماركس”، وغيره من المنظرين لتلك الحقبة من الزمن، وابنته تناقشه بحدة وتخبره بما معناه: أما آن لك أن تفيق من هذا الوهم الذي جرّ عليك وعلينا المتاعب؟، لكن الكبرياء الشخصي للرجل وتحت ثقل الهزيمة، يرفض الاعتراف بذلك، فهو لا يريد أن يصدق أن نضالا من نوع ما، خاضه ل 40 عاما، صار على الحالة الرثة التي هو عليها، شعارات فارغة من أي مضمون، وهو ليس مستعدا نفسيا أولا للخروج من وهمه المريح، رغم المد الرأسمالي والسلفي الذي يراه والذي سيعاني بسببه صديق عمره “نجيب”، أما الصديق الثالث “قدم دوره غسان مسعود” فيصبح صاحب ميول دينية صوفية.
يعود “نجيب إلى البلد” بعد أن اخبرته طليقته وأم ابنته على الجوال -أدت دورها سلمى المصري- بأن ابنتهما خُطفت، وعليه أن يعود بأسرع وقت، يجتمع الأصدقاء الثلاثة بعد فرقة دهر، وتبدأ الحكاية بالتصاعد بتوازن ممسوك “على الشعرة” كما يقال، فلا تطغى الصورة بصريا على المضمون، بل إنهما منسجمان تماما،وثمة سبب رابع يظهر بالتدريج،وهو حسي شخصي أولا، يتجلى في حالة الدفء التي يشيعها المزاج العام للعمل، والذي ستصل مشاعره للمتفرج من خلال عدة تفاصيل، إن كان بالخلفية اللونية الدافئة، أيضا اغنية الشارة -غنتها فايا يونان-والتي هي قصيدة للصوفي الأشهر للحلاج-858-922- يقول مطلعها: (اذا هجرتَ فمـن لـي ومـن يجمّل كـلّي)، وهي أي اغنية الشارة، أيضا منتقاة بعناية تقنية، فجملها رشيقة، قصيرة، مشحونة بالشعرية الصوفية المعروفة، عدا عن الحالة العاطفية التي تشكلها القصيدة بحد ذاتها، أيضا حضور الفنانة القديرة “ثناء دبسي” وما له من تأثير عاطفي على المشاهد أيضا، الانتقاء الناجح للممثلين الذين يقدمون الحكاية.
“ترجمان الأشواق”، يُعيد للدراما المحلية، العديد من أسباب نجاحها في الماضي وبلوغها الذروة الذهبية لها، نص مشغول بحرفية، إخراج منسجم والحكاية التي يقدمها، أداء متقن للشخصيات عموما، وبشكل خاص للأصدقاء الثلاثة.
العمل من إنتاج “المؤسسة العامة للإنتاج والتلفزيوني والإذاعي”، وهو خطوة تُحسب لها.
تمّام علي بركات