أحقّاً ثمّة شعرة بين العبقريّة والجنون؟
أحقّاً، ما يفصل العبقريّة عن الجنون، مجرّد شعرة؟ سنحاول تلمّس هذه المسألة بعبورنا السريع على بعض الأسماء المهمّة التي تركتْ بصمتها على جبين التاريخ الحديث، وكان أصحابها يعانون من أمراضٍ نفسيّة مزمنة انعكست في تصرّفاتهم سلوكاً حياتيّاً مضطرباً. القائمة تطول: (من الشاعر الأمريكي إدغار آلان بو، والفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه، والروائي الأمريكي أرنست همنجواي، والكاتب التشيكي فرانز كافكا، والأديب الانكليزي جوناثان سويفت، والكاتب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، إلى الكاتب الروسي غوغول، والكاتب الفرنسي موباسان، والكاتبة البريطانية فرجينيا وولف، وأخيراً وليس آخراً الشاعر الروسي سيرجي يسينين، فهل ترتبط الموهبة بالجنون؟ أم أنّ المبدع بسبب حساسيّته العالية وشدّة إرهافه، لا يستطع التأقلم مع العالم الواقعي كما هو، لذلك تراه يرسم في مخيّلته معادلاً مشتهى له، فيبدأ بتبادل الرّفض مع الواقع بغية الوصول إلى المثال المرسوم في الذهن، حيث تنشأ في داخله المتناقضات مشكّلةً تلك الحالة القلقة من اللّا توازن، وقد قالها يوماً المسرحي الفرنسي الشهيرً “جان جينيه”: “بأن الكتابة نشأت لديه كردّ فعل على هذا العالم الذي يتبادل وإيّاه الرفض”. المبدع يصل بأفكاره إلى ذرا عالية، سرعان ما تحفر هوّة عميقة بينه وبين المجتمع النمطي الأفكار الذي يعيش ضمن عاداته وتقاليده المتوارثة، فينشأ اغترابه مضاعفاً مع نفسه أوّلاً بصراعها مع ذاتها وهي ترمّم داخلها، ثمّ صراعها مع الآخر أي المجتمع بقيمه القارة، لتزداد إيغالاً في المجهول، ما يسبب لها خللاً نفسياً خطيراً هو أشبه بالجنون الذي قد يؤدي بالبعض إلى الانتحار، وقد تربع هؤلاء العباقرة على مجد الشهرة سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، بعد أن رفدوا البشرية بكثير من الإبداعات المهمّة، وكان أغلبهم يعاني من حالات مرضيّة ذات منشأ نفسي عميق، فالشاعر الأمريكي “بو” كان يعاني من حالات اكتئاب متكرّرة وتوتّر كبير وإدمان على الكحول ونوبات فقدان وعي وهلوسات سمعيّة وبصريّة أودت به إلى الموت وحيداً في 7 تشرين الأول 1849م بعد أن أهدى البشريّة نمطين من أكثر الأجناس الأدبية رواجاً هما: نمط قصّة الرعب، ونمط الرواية البوليسيّة بأسلوبها الاستدلالي الذي أوجد شخصيات كـ شرلوك هولمز مثلاً. أمّا الفيلسوف “نيتشه” فكان مصاباً بجنون عظمة حقيقي وسلوك اضّطرابي عصبي ونوبات صداع شديدة جداً. كتب في رسائله قائلاً: “بمرور شهرين سوف أغدو أعظم شخص في الكرة الأرضيّة” وقد وصلت به التّهيؤات حدّ تخيّل أنّ حارس المشفى هو “بسمارك” شخصياً، ومن إبداعاته شخصية السوبرمان التي تقف فوق الأخلاق على جانبي الخير والشر التي ألهمت شخصيّة فاشية كـ هتلر للوصول إلى السلطة ومحاولة احتلال العالم أجمع، انطلاقاً من فكرة الأخلاق الجديدة التي ترى بأنّه فقط يحقّ للأقوياء والأصحاء أن يبقوا وينتصروا. كما أعلن “نيتشه” في كتبه أيضاً عن فكرة موت الإله.
وأما مرض الروائي الأمريكي “همنغواي” فقد شُخّص بالاكتئاب العميق والتّشوش العقلي والميول الانتحارية والأفكار الهوسية، وبأنّ ثمة من يطارده ويلاحقه، وقام بمحاولة انتحار لم تنجح، ولم يتخل عن نواياه هذه رغم خضوعه للعلاج النفسي فبعد خروجه من المشفى بأياّم أطلق النار على نفسه. قدّم للعالم أسلوباً أدبيّاً جديداً عكس فيه سلوك الأجيال الضائعة التي طحنتها الحرب بين رحاها، وكذلك خلقه لنموذج جديد للبطل المحارب الصارم المستمر بكفاحه حتى النهاية، تقول شخصيّة “سانتياغو” في روايته “الشيخ والبحر” الذي رفض أي نوع من أنواع المهادنة قائلاً: “الإنسان لم يخلق لكي يهزم، الإنسان قد يدمّر، ولكنه لا يهزم”.
وكان يقول أيضاً: “لا يحق للرجل أن يموت وهو في الفراش، بل عليه أن يموت إمّا في المعركة أو بوساطة رصاصة في الجبين”. هكذا أنهى حياته هو أيضاً.
أما “كافكا” فقد كان يعاني من “عصاب شديد مع وهن نفسي وحالات اكتئاب متكررة” وقد كتب في دفتر يومياته: “إنها حياة مزدوجة ومرعبة ولا أرى إلا مخرجاً واحداً منها هو الجنون.. لا أقدر على النوم، مجرد أحلام من دون نوم، عدم استقرار غريب في كياني الداخلي بالكامل، يا له من عالم فظيع ذلك العالم الذي أحمله داخل رأسي. فكيف يمكنني أن أتحرّر منه وأن أحرّره من دون تدمير”. توفي في الـ41 من عمره بعد أن أسّس ركيزة الاتجاه الجمالي في الأدب الكابوسي الذي أصبح من العلامات الواسمة للقرن العشرين.
وكان “روسو” مصاباً بذهان المطاردة “حيث يعتقد دوماً بأن هناك من يحيك المؤامرات ضده فلم يكن يعيش في مكان واحد لمدة طويلة، ويرتاب بكلّ شيء حوله، وأهمّ الأفكار التي أهداها للبشرية: الإصلاح التربوي الخاص بتربية الأطفال حيث اقترح أسلوب التشجيع والملاطفة بدل الاضطهاد والعقاب وكان يعتقد بضرورة تحرير الطفل من الحفظ عن ظهر قلب والتسليم الميكانيكي بالحقائق الجامدة، كما مهّد بأفكاره لقيام مذهب الرومانسية لتي سيطرت على الفنون أواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كما قدّم فكرة الدولة المدنية، دولة القانون والديمقراطية التي شرحها في كتابه “حول العقد الاجتماعي”.
أوس أحمد أسعد