الكتب دمى!؟
د. نهلة عيسى
معرض الكتاب.. وما كان قبل أعوام آلافاً من الزوار المتعبدين المثقلين بحقائب من الكتب المختارة, بات مجرد مئات يغازلون الكتب بالنظر وكأنهم مجرد سواح يركبون في قطار, وفي السفر يصبح النظر شبيهاً بسؤال: “كيف حالكم اليوم”؟، ثم متابعة الرحلة هرباً من عناوين الكتب التي تُشَبه بلادهم– بحسن نية- بكل ما هو مرعب ومؤلم على كوكب الأرض, على أمل أن يصلوا إلى الأمل!؟.
معرض الكتاب, وقطار التجوال فيه، يبدو وكأنه إطلالة كئيبة على المستقبل.. مئات الأمتار من الكتب, معظمها يزدري الحياة ويستجدي الآخرة, ويُخبر الزوار: لا سعادة على الأرض, السعادة في السماء!! ووجوه الزوار معجونة بالوجع, تقول دون أن تقول: ما معنى سعادة, ما معنى سماء!؟ الحرب لم تعد الغصة الوحيدة في البلاد.. الفقر هو الحرب, هو الوحشة, وهو إعلان زاعق بالحق برفع القناع, وفي أن لا يكون المرء مسؤولاً عن صراخه وسط الجموع مدعية الثقافة: بكم كيلو الخيار اليوم!؟ معرض الكتاب, ومحاضرات, وقلة من الحاضرين والحاضرات, و”المونولوجات” المعتادة عن “كان, ويجب, وسوف, وحتماً”, وعن الحرب, الشماعة التي ناءت ونَخت بما حُمِلت, ليخرج الحضور وفي الحلق سؤال: هل كان يجب أن نحضر, وهل كان يجب أن نجلس لنستمع لمن يعتلون منصة الكلام, الواحد تلو الآخر, كطابور معزين في سرادق عزاء طويل حزين, وهل كان يجب أن نتذكر, كيف كان هذا الكلام الرتيب المعاد, مقدمة للحرب, وربما سبباً من أسبابها العتيدة العديدة!؟.
معرض والكثير من الحكايات الرثة عن عدم القلق على مستقبل الوطن لأنه منيع!! تتحول في رؤوس السامعين إلى ضجيج أبواق وزمامير, وإعلام سوداء شبيهة بإعلام من يقتلوننا, وإلى قمصان واقية من معرفة الحقيقة, لتُسدل ستائر الغموض على الحرب وأسبابها, وصناعها, وتجارها, ولنبقى جميعنا خارج كل مساءلة أو حتى مجرد سؤال عن “لماذا حدث ما حدث”, و”من أي خروق دخل الآخرون علينا, خاصة وأن حناجر المحاضرين, مصرة على أن الغد جميل”!؟.
معرض الكتاب, والماضي يحتل الحاضر بقوة السلاح, وقوة النفوذ, والزوار مجبرون على ارتكاب جريمة سماع الثرثرة عن إعمار الحجر, وزرع الشجر, وفرص الاستثمار, وحصة الصديق, وكيف نعاقب العدو!؟ والآه في وطننا تعانق الحجر والشجر ورغيف الصباح وحقيبة المدرسة وحذاء الطريق وعناق الرفيق وفراش النوم!! آه.. ما أجمل الصمم عندما يصبح كل الكلام هراء وخرف!!.
معرض الكتاب, والكتب دمى في رفوف أشبه بناطحات السحاب, تبدو كالجالس وحيداً على قمة الدنيا, وفي الذاكرة شظايا كقارورة عطر مكسورة, يتخيل أنه ربما لمح وجه الماغوط, أم تراه سمع صوت القباني؟ وهل هذا “حنا مينه” يوقع كتاباً, وهل يبدون كمن يحمل السلاح ليحموا العقول, وليخوضوا معركة غسل التاريخ عن جلد بلد صنع الحياة, أم أن كل ذلك وهم وسراب, وصوت المغنين من “الميكروباصات” العابرة بجانب الكتب الغابرة, هو حقيقة هذا الزمان!!.
معرض الكتاب, والسؤال سكين, هل كان يجب أن أذهب هناك ليغالبني البكاء, لأنني أعرف أننا جميعاً فعلنا كل شيء لنوقد الحرب, ونميت القلب والعقل, ونجعل الكتاب حلماً يغلف “ساندويتشات” الصباح, لكي نطيل في أمد الخواء، ونراوح على رصيف الأكاذيب أننا بخير!؟ وهل هو قدر أن أبقى دائماً في حالة سؤال في كل زمان وكل مكان.. لماذا أنا هنا!؟
معرض الكتاب, والسؤال كما الرغيف.. مذلة: هل كان يجب أن أذهب؟ نعم كان يجب أن أذهب, لأن الشمس تشرق كل يوم رغم فظاظة وجه الليل, ولأن البحر كلما رمى موجة على شطآنه, ارتد راجعاً يستعيدها, وكلما اعتلته سفينة نظر إلى الأفق البعيد باحثاً بشوق وحب عن السفينة التي تليها, لأنه يعرف أنه ليس هناك سفينة تشبه سفينة, وأن من يعانون من زبد البحر سيدافعون عن الموانئ الجميلة ضد قراصنة البحر, عندما ترسو السفينة.