الرئيس الأسد أدى القسم الدستوري.. ورسم في خطاب شامل أولويات المرحلة الجديدة سياسياً واقتصادياً: سنعيد إعمار سورية.. ونستمر في ضرب الإرهاب وإجراء المصالحات.. ونكافح الفساد بالقوانين والأخلاق.. ونعزز العمل المؤسساتي عبر تكافؤ الفرص وإلـغـاء المحسوبيات
القضية الفلسطينية ستبقى القضية المركزية استناداً إلى المبادئ والواقع وما يفرضه هذا الواقع من ترابط بين ما يحصل في سورية وما يحصل في فلسطين
الأزمة أثبتت حقيقة العيش المشترك بين السوريين.. وفنّدت الطرح الخبيث حول الحرب الأهلية
دول التخلف العربي كانت وراء كل نكبة أصابت الأمة.. ولا أدل على ذلك من موقفها الحالي من العدوان الإسرائيلي على غزة
إذا كـان الـثـمـن الذي دفـعـنـاه كبـيـراً.. فـلـتكـن إنجـازاتـنـا فـي المـستـقـبـل معـادلة له بـل أكبر
الحروب تفـرض وقـائعها عـلـى الأرض ولا بــد مــــن تــحـــديــد الأولــــويــــات
رسم السيّد الرئيس بشار الأسد في خطاب شامل، ألقاه بعد أدائه القسم الدستوري رئيساً للجمهورية العربية السورية، أولوياتِ المرحلة الجديدة، والتي انطلقت بالأمس، وأهمّ ما يميزها: حماية الوطن وإعادة بنائه أخلاقياً ونفسياً ومعنوياً ومادياً، والاستمرار في ضرب الإرهاب واستعادة كلّ من شذّ عن الطريق الصحيح إلى الحاضنة الوطنية عبر المصالحات، ومكافحة الفساد بالقوانين والأخلاق، وتعزيز العمل المؤسساتي عبر تكافؤ الفرص وإلغاء المحسوبيات.
وشدَّد الرئيس الأسد على أنَّ الحروب تفرض وقائعها على الأرض، فلا بدَّ من تحديد الأولويات، وقال: إذا كان الثمن الذي دفعناه كبيراً، فلتكن إنجازاتنا في المستقبل معادلة له بل أكبر، وأضاف: سورية تستحقّ منّا كلّ الجهد والعرق والعمل، ونحن لن نبخل عليها بشيء، كما لم يبخل أبطالنا بدمائهم وأرواحهم.
وأكد الرئيس الأسد أنَّ القضية الفلسطينية ستبقى القضية المركزية، استناداً إلى المبادئ والواقع، وما يفرضه هذا الواقع من ترابط بين ما يحصل في سورية وما يحصل في فلسطين، لذلك من يعتقد أنَّه يمكن لنا العيش بأمان، ونحن ننأى بأنفسنا عن القضية الفلسطينية، فهو واهم.
أدى السيد الدكتور بشار حافظ الأسد القسم الدستوري أمس رئيساً للجمهورية العربية السورية أمام رئيس وأعضاء مجلس الشعب، وبحضور شخصيات سياسية وحزبية ودينية وإعلامية وعلمية ورياضية وفنية واجتماعية وعائلات من شهداء سورية، وألقى الرئيس الأسد خطاباً عقب أدائه القسم الدستوري جاء فيه:
كنتم الأحرار في زمن التبعية والأسياد في زمن الأُجراء
أيها السوريون الشرفاء
أيها الشعب الحر الثائر
ثلاث سنوات وأربعة أشهر.. عندما قال البعض نيابة عنكم “الشعب يريد”، نعم الشعب أراد، الشعب قرر، الشعب نفّذ. سنوات مضت منذ صرخ البعض للحرية، فكنتم الأحرار في زمن التبعية، وكنتم الأسياد في زمن الأُجراء.. زايدوا عليكم بالديمقراطية فمارستموها بأرقى صورها.. ورفضتم أن يشارككم غريب إدارة الوطن، فاخترتم دستوركم وبرلمانكم ورئيسكم.. فكان الخيار خياركم والديمقراطية من صنعكم.
قالوا: “إن الشعب السوري واحد”.. فوقفتم في وجه إعصار فتنتهم، ولم تسمحوا لرياح التقسيم والفتنة أن تضرب قلوبكم وعقولكم، وكنتم بحق شعباً واحداً بقلب واحد. صرخوا “بأنهم لن يركعوا إلا لله” فما ركعتم لسادتهم ولا استسلمتم ولا سلمتم، بل صمدتم وتمسكتم بوطنكم وآمنتم بإله واحد أحد، لا تشاركه دول عظمى ولا يغني عنه لا نفط ولا دولار.. وعندما قالوا الله أكبر، كان الله أكبر منهم وممن وقف معهم، لأن الله مع الحق، والحق مع الشعب.
سنوات مرت كان لهم القول، وكان لكم الفعل، غرقوا في الوهم، فصنعتم الواقع، أرادوها ثورة، فكنتم أنتم الثوار الحقيقيين، فهنيئاً لكم ثورتكم وانتصاركم، وهنيئاً لسورية انتماءكم إليها.
الشعب السوري تحدى كل أشكال الهيمنة والعدوان
هنيئاً لسورية شعباً تحدّى كل أشكال الهيمنة والعدوان بكل الوسائل التي يملكها: عقلاً وفكراً ووعياً وطنياً، بيده لمن استطاع حمل السلاح، بلسانه عبر قول كلمة حق، بقلبه عبر صموده وبقائه رغم التهديد..
هنيئاً لسورية شعباً تحدّى كل أشكال الخوف والإرهاب بالاستفتاء والانتخاب، ومارس حقه تحت النار، وأفشل العدوان وأصحابه وأدواته. شعب غيّر صموده كل المعطيات، فتغيّرت معها الظروف والوقائع.. تبدّلت مواقف، وتراجعت أخرى.. سقطت مسميات، واندثرت تحالفات.. انقسمت مجالس، وتفتتت هيئات.. عادت البوصلة واضحة عند كثير ممن غابت عنهم الرؤية، جهلاً أو تضليلاً، وانكشفت الوجوه القبيحة على حقيقتها، بعد أن سقط عنها قناع الحرية والثورة، لتعمل أنيابها في الجسد السوري قتلاً وتدميراً وأكلاً للقلوب والأكباد ونحراً للرقاب وقطعاً للرؤوس. لم يتركوا وسيلة قذرة إلا واستخدموها.. لم يتركوا طريقاً شاذة أو منحرفة إلا وسلكوها، وفشلوا. فشلوا بإقناعكم أنهم الحريصون على مصالح الشعب وحقوقه، وفشلوا بإشعاركم أنكم بحاجة لأوصياء عليكم لإدارة أموركم وشؤون بلادكم، وفشلوا أخيراً ونهائياً بأن يغسلوا أدمغتكم أو أن يكسروا إرادتكم. تحديتم الإعصار بصدور عارية، ووقفتم كالرمح في وجه الغدر، فسمع الكون صوتكم رغم كل محاولات الكذب والتشويش والتضليل.. أعليتم صوت الحق، وأجبرتم العالم أن يرى الحقيقة، التي جهدوا ثلاث سنوات ونيّف في إخفائها وقتلها ودفنها، وأبقيتموها أنتم حية ترزق.. حقيقة ظهرت لتحطم بساعات محدودة إمبراطوريات السياسة والنفط والإعلام. نعم، ساعات قليلة، خرجتم فيها تعبّرون عن رأيكم وتظهرون قوة إرادتكم، كانت كفيلة بمحو كل التزوير والإرهاب النفسي والمعنوي، الذي مورس على سورية لسنوات.. لم تكن تلك الانتخابات مجرد عملية سياسية إجرائية، كما هو الحال في أي مكان في العالم، بل كانت معركة كاملة الأبعاد، سخرت كل المعارك الأخرى من أجل ربحها.. فبالنسبة لأعداء الوطن كانت السبيل الذي انتظروه لنزع شرعية الدولة، وإظهار الشعب السوري بمظهر الضعيف المتفكك غير القادر على حكم نفسه، ليخلقوا بعدها مبررات التدخل الخارجي بذرائع مختلفة.
أسقطتم بأصواتكم الإرهابيين والعملاء وأسيادهم
وأما بالنسبة لنا كمواطنين فكانت الانتخابات إعلان انتماء حقيقي للوطن، يتجاوز انتماء تمنحه هوية أو جواز سفر.. كانت الانتخابات معركتنا للدفاع عن السيادة والشرعية والقرار الوطني وكرامة الشعب، وكانت المشاركة الكبيرة استفتاء لصالح السيادة ضد الإرهاب بكل أشكاله.. لم يكن مهماً لدى الكثيرين من سيصعد أو سيفوز، لكن المهم كان من سيسقط جراءها.. لقد أسقطتم بأصواتكم الإرهابيين، وأسقطتم معهم العملاء من السوريين، الذين شكلوا لهم غطاء سياسياً، وأسقطتم بذلك أسيادهم أصحاب المشروع بكل ما فيه من دول كبرى، وأخرى تابعة منقادة، من مسؤولين وأصحاب قرار يملون ويأمرون، وإمعات يملى عليها وتنصاع وتنفذ. ولم تقف النتيجة عند هؤلاء بل تجاوزتها إلى إسقاط كل انتهازي استغل الأزمة من أجل تحقيق مكسب فردي على حساب الآخرين، وكل من نأى بنفسه عن المعركة منتظراً اتضاح موازين القوى، وكذلك من وقف ضد رغبة الشعب بمقاطعته هذا الاستحقاق الوطني الأهم أو دعا إلى مقاطعته وتأجيله، معلناً، عن علم أو عن جهل، موقفاً مطابقاً تماماً لمواقف أعداء الشعب.
السوريون خارج حدود الوطن أعلنوا أنهم سوريون قلباً وروحاً
أما انتخابات الخارج الفعلية والرمزية، فبعد أن جهدت الماكينات الإعلامية المعادية على مدى سنوات لإظهار أن كل من خرج من سورية يقف ضد الوطن والدولة، فقد أتتهم الصفعة من السوريين في الخارج مغتربين ولاجئين، الذين قالوا كلمتهم وفاجؤوا العالم، وكرسوا الصورة الوطنية للسوريين وعنادهم في التمسك باستقلال قرارهم وصيانة سيادتهم.. لم تمنعهم ظروف الاغتراب أو اللجوء من القيام بواجبهم تجاه هذا الاستحقاق الوطني المفصلي.. خرجوا إلى الاستحقاق أفواجاً.. البعض منهم خرج رغم آلامه الجسدية والمعنوية.. البعض الآخر خاطر بلقمة عيشه ومستقبل وجوده رغم حاجته، وواجه تهديدات حاولت منعه من المشاركة.. لقد هالهم أن يحمل مواطن سوري جواز سفره ويختار مرشحه ويضع ورقته في الصندوق.. لقد ذعرتهم هذه الخطوات البسيطة لأنهم فهموا أنها أكثر من مجرد انتخابات.. هي دفاع عن وحدة الوطن وسيادته وكرامته، وهذا ما جعلهم يمنعون التصويت في دولهم ودول عربية تابعة لهم.. هذا هو نفاق الغرب.. فكيف يدعون الدفاع عن شعب منعوه من قول كلمته عندما شعروا أنها ستناقض رغباتهم ومصالحهم؟!.. مع ذلك نشكرهم لأنهم بجهلهم وعدم وعيهم زادوا من حماسة السوريين ومن شرعية الانتخابات بدل أن ينقصوها كما كانوا يعتقدون.
لقد أعلن السوريون خارج حدود الوطن عبر الانتخابات أنهم سوريون قلباً وروحاً، وأثبتوا ما كنا نقوله في البدايات: إن السبب الأساسي لخروج المواطنين خارج البلاد هو إرهاب المسلحين ووحشيتهم.. فكيف يمكن لعاقل أن يصدّق أن مواطناً اعتدت عليه دولته وخرج هرباً من قمعها.. أن يقف معها بنفس الحماسة والتحدي التي أظهرها المغتربون واللاجئون في الانتخابات؟!. كيف لمواطن كاره لدولته، كما افترض البعض، أن يكون قادراً على إحداث هذا الفرق الشاسع بين أن يكون خنجراً في ظهر وطنه وعبئاً عليه، كما أرادوه أن يكون، وبين أن يكون، كما رأيناه، سنداً وداعماً له؟!.
لكل أولئك أوجّه التحية والتقدير، وأؤكد بأنني أكثر تفاؤلاً بأن الظروف ستعود إلى الوضع الذي يرجع فيه كل أبناء الوطن المخلصين الشرفاء إليه، وأكثر ثقة بأنهم سيكونون من أوائل العائدين حالما تزول الأسباب التي أجبرتهم على الخروج خارج الوطن ليكونوا سنده من الداخل.
لقد أثبتم أيها المواطنون أنكم عبر تاريخكم شعب لا يخاف التحدي بل يهواه.. كائناً من كان المتحدي.. أفشلتم الخصوم وأثبتم سطحيتهم وجهلهم.. وستغرق لسنوات مراكز التحليل والدراسات لديهم بالبحث عن أجوبة شافية لكل ما حصل.. ولتحديد أخطائهم وسوء تقديراتهم وقراراتهم في الفترة السابقة.. ولن يصلوا إلى جواب، لأنهم اعتادوا على الإمعات واعتمدوا على العملاء.. لم يعرفوا أو يفهموا أو يتعاملوا مع السادة ومع الوطنيين الشرفاء.. لذلك هم أقدر على فهم مصطلحات الخنوع والذل والتبعية.. لكنهم غير قادرين على تفسير معاني الشرف والسيادة والحرية.. فمن يرد أن يتوقّع سلوك وردود أفعال شعب عريق.. فعليه أن يمتلك نفس العراقة والعمق التاريخي والحضارة ليسبر مكامن قوته، وصلابته، اللتين تظهران بوضوح في الأزمات الوطنية الكبرى، وفي المراحل التاريخية المفصلية.
واليوم أنتم الأقدر على تعليم أولئك الخانعين في منطقتنا العربية مفاهيم لم يعرفوها كالسيادة والإصرار والتحدي والكرامة.. أنتم الأقدر على إعطائهم دروساً في الديمقراطية.. في كيفية مشاركة الشعوب في القرار والمصير الوطني.. ولكم الآن أن تعرفوهم على أشياء لم يسمعوا بها قبلاً كالانتخابات والحرية، والحقوق، والدولة والحضارة.. فهم لم يألفوا إلا القمع، والتطرف، والخنوع، والذل، والتبعية، وتصدير الإرهاب.
رصاصة وجهها السوريون إلى صدور الإرهابيين ومن وراءهم
لقد كانت الانتخابات الرئاسية لكثير من السوريين كالرصاصة التي يوجهونها إلى صدور الإرهابيين ومن وراءهم.. ملايين الرصاصات أطلقت وأصابت واستقرت في صناديق الاقتراع.. وأثبتت أن كل امبراطوريات السياسة والإعلام والنفط لا تساوي شيئاً أمام موقف وطني نقي صادق.. وأن كلامهم وتصريحاتهم لسنوات لا تصمد ساعات أمام شعب موحّد حر كريم.. وأعلنت أن كل أولئك مجتمعين مع إرهابهم وإرهابييهم لا قيمة لهم ولا مهابة.. هم قادرون على إلحاق الأذى والضرر لكنهم غير قادرين على النجاح.. قادرون على تهديدنا لكنهم غير قادرين على إخافتنا.
ولا يفوتني هنا أن أوجه التحية إلى المرشحين الدكتور حسان النوري والسيد ماهر حجار، اللذين عبرا عبر خوضهما الانتخابات عن عراقة السوريين وحضارتهم في ممارسة الديمقراطية وحق المواطنة وتطبيق الدستور، وتطبيق الدستور هو الطريق الأهم لحماية الوطن ووحدته واستقراره.. أوجه التحية لهما لأن مجرد خوض الانتخابات في تلك الظروف بغض النظر عن الفائز كان انتصاراً للشعب، وبالتالي للوطن..
وأوجه التحية لكل مواطن سوري تحدى القذائف والتهديد والنار، وتوجه إلى المركز الانتخابي.. لتلك المرأة الشامخة التي وقفت منذ الخامسة صباحاً أمام أحد المراكز حاملة صورة ابنها الشهيد، لتصوّت باسمها وباسم دماء شهداء الوطن.. لذلك الجندي البطل المصاب الذي أبى إلا أن يحضر على كرسيه المتحرك رغم جراحه ويضع ورقته في الصندوق.. لتلك المرأة المسنة التي تجاوزت المئة عام ولم تمنعها سنينها المتقدّمة من الذهاب والتصويت.. لشعب كامل حمل آلامه وآماله وطموحاته وجاء ليسمع العالم صوته، وهنا كان انتصاره.. هذا الانتصار الذي لم يكن ليتحقق لولا دماء الشهداء والجرحى وعائلاتهم الصابرة الصامدة العاضة على الجرح.. لولاهم جميعاً لما حمينا البلاد والدستور والقانون والمؤسسات، وبالتالي سيادة سورية، ولما كنا هنا نتحدث هذا اليوم، منهم تعلمنا، وما زلنا، معاني البطولة والتضحية والثبات، ومنهم نستمد القوة والقدرة، وبعظمتهم ووطنيتهم صمد الوطن.
لقد سيّجوا بدمائهم الطاهرة حدود البلاد، ووحّدوا بجراحهم آلام السوريين وآمالهم، وصاغوا ببطولاتهم أعظم معاني القوة والصلابة، وانطلاقاً من كل ذلك فإن الدولة لم ولن تألو جهداً برد ولو جزءاً يسيراً من جميل هؤلاء، لعائلاتهم وأولادهم.
استهدفوا في حربهم القذرة كل ما ميّز سورية عبر تاريخها
أيتها السيدات أيها السادة
إن الحرب التي تخاض ضد الشعب السوري حرب قذرة، وبالرغم من كل الظلم والآلام، التي أصابت كل بيت في سورية، وبالرغم من كل الدماء والدمار، لم يقرر هذا الشعب الاستسلام أو الخنوع.. فنحن شعب تمنحنا قسوة الظروف المزيد من الصلابة، وتدفعنا الضغوطات إلى المزيد من التحدي، ونواجه محاولات الإذلال بالمزيد من الأنفة والكرامة والعزة والثقة بالنفس، وها نحن اليوم ننظر إلى المستقبل وننطلق باتجاهه بمزيد من التصميم والثقة بأن المستقبل ملك للشعب ولا أحد غيره.. فهذه البلاد التي مر عليها الغزاة منذ فجر التاريخ قبل آلاف السنين، حتى غادرها المستعمر الفرنسي قبل أقل من سبعة عقود، ما زالت هي سورية الحيّة، القادرة على الصمود والبناء وإعادة استنباط الحياة من رحم المصائب.. هنا تتجلى عظمة الشعوب وتاريخها وحضارتها، فالبلاد ليست بمساحتها أو عدد سكانها أو أموالها أو نفطها.. البلاد ببعدها الحضاري الثقافي، وبدور شعبها التاريخي وبالسيادة والإرادة لمواجهة تحديات الحاضر ولصناعة المستقبل. لهذا الدور استهدفت وتستهدف سورية، فما يجري من عدوان لا يستهدف أشخاصاً أو حكومات، كما بدا للبعض في البداية، بل يستهدف بنية الوطن ودوره وتفكير أبنائه لتحويلهم في نهاية المطاف إلى قطعان تقاد عن بعد، وإلهائهم بصراعات لا تنتهي، تمتد لأجيال، بدلاً من الانشغال بطموحاتهم الوطنية وتحقيق الازدهار وما يعنيه ذلك من قوة المجتمع والدولة. لم يكن عدواناً من أجل تخليص الشعب من سلبيات يعاني منها، كما سوّقوا وكما اعتقد بعض السذج، فهم الأكثر فرحاً بسلبيات أي مجتمع عربي ليبقوه متخلفاً تابعاً منقاداً لهم، وما خير دليل على ذلك إلا تحالفاتهم مع أكثر دول المنطقة تخلفاً وفساداً وقمعاً لشعوبها.. لم يستهدفوا الثغرات والسلبيات لدينا، لقد استهدفوا في الحقيقة الحالة الوطنية السيادية.. استهدفوا الهوية الوطنية والانتماء العروبي.. استهدفوا الإسلام الصحيح والمسيحية الأصيلة.. استهدفوا التجانس الفريد في مجتمعنا.. استهدفوا كل ما ميّز سورية عبر تاريخها.
لا نحب العنتريات ولا البندريات
إن الغرب الاستعماري لا يزال استعمارياً، فالجوهر واحد وإن اختلفت الأساليب.. وإن كان الغرب، وإمعاته من الحكومات العربية، قد فشلوا فيما خططوا له، فهذا لا يعني على الإطلاق توقفهم عن استنزاف سورية كهدف بديل، يحقق نفس الأهداف الأساسية، التي خططوا لها على المدى الأبعد، ومع كل أسف بأياد سورية باعت وطنها، ولم تبع شرفها، لأنها لا تمتلك شرفاً من الأساس.
كانت الرؤية واضحة تماماً لنا منذ الأيام الأولى للعدوان، وتذكرون وأذكر ردود الأفعال غير المصدّقة ولا المقتنعة بما قلته في بداية الأزمة.. حينها، كثيرون رفضوا كلمة مخطط وعدوان ولم يقتنعوا إلا متأخرين بعد فوات الأوان أن ما يجري في البلاد ليس مطالب محقة لشعب مضطهد، ولا تظاهرات حملت مطالب بالحرية والديمقراطية، بل هو مخطط كبير للمنطقة برمتها لن يقف عند حدودنا. صورة بدأت ملامحها بالتكشف منذ غزو العراق.. لم يكن موقفنا حينها موقفاً مبنياً على حب المواجهة والعنتريات، وكما تعلمون السياسة السورية لم تتصف في يوم من الأيام بحب العنتريات.. لا نحب العنتريات ولا البندريات.. العنتريات إما أن نذهب باتجاه مواجهة العالم من دون مبرر وبتهور أو أن نفعل كما يفعل “الشقيق” أردوغان، يريد أن يحرر الشعب السوري من الظلم ويحلم بالصلاة في الجامع الأموي، وعندما أتى موضوع غزة رأينا بأنه حمل وديع يشعر باتجاه إسرائيل كما يشعر الطفل الرضيع تجاه حضن أمه بالحنان، ولا يجرؤ على أن يتمنى أن يصلي في المسجد الأقصى، كما لاحظتم فقط في الجامع الأموي، وهذه هي العنتريات.. أما البندريات فهي أن يتحوّل الإنسان إلى منبطح بشكل مطلق وكلي أو أن يتحوّل إلى عميل، ولو لم يكن هناك من يبحث عن عملاء.. إذاً نحن لا نهوى العنتريات ولا نهوى البندريات.. كلاهما خطير ويؤدي بصاحبه ودولته وشعبه إلى الهاوية.
كما أن موقفنا لم يكن بحثاً عن موقف مخالف أو انتظاراً لتصفيق من أحد.. لقد رفضنا غزو العراق لأنه كان بداية لتكريس الانقسام والطائفية.. كان لدينا قلق حقيقي من وضع خطير كنا على قناعة بحتمية حدوثه.. وها قد أصبح اليوم واقعاً ندفع ثمنه غالياً.
من نفس المنطلق ومنذ بداية الأحداث حذّرنا بأن ما يحصل هو مخطط لن يقف عند حدود سورية بل سيتجاوزها، منتشراً عبر انتشار الإرهاب الذي لا يعرف حدوداً.. حينها قال البعض: “الرئيس السوري يهدد العالم”.. حينها تحدثت عن خط الزلازل الذي يمر في سورية، وقلت: إن المساس بهذا الخط سيؤدي لزلازل لن تتوقف ارتداداتها في سورية ولا عند الجوار بل ستذهب لمناطق بعيدة، اعتبروا أن الرئيس السوري يهدد لمجرد التهديد.
المعركة تتجاوز ساحاتها حدود الوطن
أليس ما نراه في العراق اليوم، وفي سورية ولبنان، وفي كل الدول، التي أصابها داء “الربيع” المزيّف من دون استثناء.. هو الدليل الحسي الملموس على مصداقية ما حذرنا منه مراراً وتكراراً، وقريباً سنرى أن الدول العربية والإقليمية والغربية التي دعمت الإرهاب ستدفع هي الأخرى ثمناً غالياً، وسيتفهم الكثيرون منهم متأخرين، وربما بعد فوات الأوان، أن المعركة التي يخوضها الشعب السوري دفاعاً عن وطنه تتجاوز ساحاتها حدود الوطن إلى الدفاع عن كثير من الشعوب الأخرى التي ستتعرض عاجلاً أم آجلاً لنفس الإرهاب، نتيجة قصور الرؤية لدى سياسييهم وجهلهم المطبق بمصالح بلدانهم وسطحية تفكيرهم وقلة استيعابهم لمنطقتنا وسبل التعامل مع شعوبها.. وهنا نتساءل: إذا كان الغرب وحلفاؤه لا يتعلمون الدروس المستفادة من التجربة الخاطئة إلا متأخرين، فهل سنكون مثلهم في فهمنا المتأخر للأشياء والأحداث؟!. هل كان علينا أن ننتظر ثلاث سنوات وندفع ثمن قصور نظر البعض ونضحي بدماء أبنائنا وأرواحنا واقتصادنا وأمننا وسمعتنا كي نكتشف أن ما كان يجري هو مخطط ضد الوطن، وأن ما حصل لم يكن ربيعاً ولا حرية ولا ديمقراطية؟!. هل كان علينا أن ندفع كل هذه الأثمان، وما زلنا، حتى يعرف البعض بأنه بقلة وعيه الوطني قد خلق حاضنة للإرهاب وموطئ قدم للعدوان؟!.
هل كان علينا الانتظار اثني عشر عاماً حتى نفهم أن غزو العراق سيجلب الإرهاب والتقسيم إلى منطقتنا؟!. أبعد من ذلك هل كان علينا انتظار ثلاثين عاماً حتى يأتي قاطعو الرؤوس وآكلو القلوب والأكباد لكي نكتشف أن استغلال الدين والإرهاب وجهان لعملة واحدة؟!. ألم تكن تجربة “إخوان الشياطين” الإجرامية في الثمانينيات كافية لنتعلم الدروس؟!. في بداية الأزمة تكلمت عن “إخوان الشياطين” فقام البعض بالتعليق بأنه لم يترك شعرة، ربما نحاورهم، لماذا يقول عنهم شياطين، وهم حزب، يجب أن يقول عنهم الرئيس إخوان مسلمين.. فنحن نعتذر من هؤلاء.. لا يجوز أن نسميهم “الإخوان الشياطين” يجب أن نسميهم “الشياطين”، لأن القتل والإرهاب والفساد والفتنة وكل الموبقات هي من وساوس الشيطان.
إن كانت الظروف الراهنة بدروسها، مضافة إليها الدروس السابقة في تاريخنا الحديث، غير قادرة على تعليمنا، فلن تكون هناك إمكانية لنتعلم شيئاً، ولن نكون قادرين على حماية وطننا حاضراً أو مستقبلاً، ومن لا يحمي وطنه ويدافع عنه ويحافظ عليه، لا يستحقه ولا يستحق العيش فيه.
لا يهمنا من خرج خائناً أو عميلاً أو فاسداً
وانطلاقاً من كل ما سبق، ومن الرؤية الواضحة للمخطط المرسوم ضد سورية منذ الأيام الأولى للعدوان، قررنا السير في مسارين متوازيين: ضرب الإرهاب من دون هوادة والقيام بمصالحات محلية لمن يريد العودة عن الطريق الخاطئ.. وكنا منذ البداية على قناعة تامة أن الحلول الناجعة هي حلول سورية بحتة، لا دور لغريب فيها إلا إذا كان داعماً وصادقاً.. وكل من عاد إلى الطريق الصحيح اكتشف بنفسه أن الدولة كالأم الحنون، تغضب من ابنها العاق، لكنها تسامحه حين التوبة الصادقة النصوحة، وكثيرون هم من ألقوا السلاح وعادوا وقاتلوا مع الجيش واستشهدوا دفاعاً عن الوطن، وأكرر دعوتي لمن غرر بهم أن يلقوا السلاح، لأننا لن نتوقف عن محاربة الإرهاب وضربه أينما كان حتى نعيد الأمان إلى كل بقعة في سورية. لا يهمنا من خرج خائناً أو عميلاً أو فاسداً، فقد نظّفت البلاد نفسها من هؤلاء، ولم يعد لهم مكان ولا مكانة لدى السوريين، وأما من ينتظر انتهاء الحرب من الخارج فهو واهم، “فالحل السياسي”، كما يسمى اصطلاحاً، يبنى على المصالحات الداخلية، التي أثبتت فاعليتها في أكثر من مكان.. ونؤكد دائماً على الاستمرار بهذا المسار لما يعنيه ذلك من حقن لدماء السوريين وعودة الأمان والمهجرين وعودة الإعمار وقطع الطريق على أي مخططات خارجية تؤسس على ثغرات داخلية.
الحوار لا يشمل القوى التي أثبتت لا وطنيتها
والمصالحات الوطنية لا تتعارض ولا تحل محل الحوار الوطني، الذي بدأته الدولة مع مختلف القوى السياسية والحزبية والفعاليات الاجتماعية، وستستمر به بانفتاح تجاه كل الأفكار.. فهو الأشمل، ولا يرتبط بالظروف الراهنة التي تمر بها البلاد.، بل هو حوار حول مستقبل الوطن وشكل الدولة في كل المجالات دون استثناء.. ويناقش فيه كل ما يرتبط بالأزمة أو لا يرتبط بها، ما سبقها أو ما نتج عنها. وإن كانت الدولة قد مدت يدها للحوار مع الجميع منذ بداية الأزمة، فاليوم، وبعد هذا الاختبار الوطني القاسي والغالي الثمن، فإن هذا الحوار لا يشمل القوى التي أثبتت لا وطنيتها، فتهربت من الحوار في البدايات.. راهنت على تغير الموازين، وعندما خسرت الرهان قررت تغيير دفة الاتجاه كي لا يفوتها القطار، وتلك القوى التي ادعت الوطنية والخوف على البلاد، في الوقت الذي حاولت بمواقفها إعطاء الغطاء للإرهابيين مقابل وعود أو أموال أتتهم من الخارج، أما القوى العميلة علناً فلا نحاورهم كسوريين بل كممثلين للدول التي يدينون بالولاء لها وينطقون بلسانها.
عدوان من الخارج بأدوات داخلية
لقد أثبتت الأزمة حقيقة العيش المشترك بين السوريين، وفنّدت الطرح الخبيث حول الحرب الأهلية، الذي طرح لكي يغطي حقيقة أن ما يحصل هو عدوان من الخارج بأدوات داخلية، وما استخدامهم اليوم لمصطلح الحرب الأهلية لوصف ما يحصل في سورية إلا محاولة لإعطاء الإرهابيين غطاء شرعياً، كطرف في خلاف بين السوريين أنفسهم، وليس كأداة خسيسة بيد الخارج.. فالحرب الأهلية لها شكلها من خطوط فصل جغرافية واضحة بين الطوائف والأعراق أو غيرها من المجموعات المتناحرة، وانعكاسات خطوط الفصل هذه نراها على شكل انفصال بين المكوّنات في كل زاوية من المجتمع.. وتكون نتيجته انهياراً كاملاً للدولة والمجتمع، فهل هذا ما نراه في سورية؟. لا يمكن أن يكون لدينا حرب أهلية وانقسام حقيقي، والجيش موحّد والمؤسسات موحّدة والشارع موحّد والناس مع بعضها في السوق والمطاعم.. هذا عبارة عن وهم.. هذا ما أرادوا إقناعنا به.. الواقع هو العكس، فلقد تجاوزنا حتى فكرة العيش المشترك، التي كانت سائدة قبل الأحداث، إلى بداية الاندماج الكامل بين السوريين.. وما مشاهد السوريين المتنوعة من كل الأطياف أمام صناديق الاقتراع، وما الإجماع الشعبي والمشاركة العالية في الانتخابات إلا تأكيد لحقيقة باتت جلية، وهي أن ألوان المجتمع وأطيافه الغنية كأعضاء الجسد الواحد، تختلف أشكالها ووظائفها ومهامها، لكنها تتكامل جميعاً من أجل خدمة بعضها، والجسد الذي تنتمي إليه.. لا تعايش بعد اليوم ولا تسامح، بل تكامل وتجانس.
لا تطوير بلا أخلاق
إن انطلاقنا باتجاه المستقبل لا يتمّ من دون التعامل بشفافية مع جذور ما يحصل في الحاضر، فبمقدار ما أثبت هذا الشعب وطنيته، بمقدار ما كان مؤلماً ومخجلاً، وعاراً أن يكون جزء منه، ولو قليل هو الجذر الذي استندت إليه هذه الحرب، والذي لولاه لما كان ممكناً دخول الإرهابيين الأجانب أو التدخل الأجنبي السياسي أو الاقتصادي أو العسكري في سورية، وحتى مجرد محاولة المساس بسيادة البلاد. وإذا كان العامل الخارجي واضحاً على لسان المعتدين وأدواتهم، فإن العامل الداخلي يبقى هو الأساس لمعالجة الحالة الراهنة والوقاية من مثيلاتها في المستقبل.. وإذا كان هناك اليوم شبه إجماع بين السوريين أن السبب الأساسي لانغماس البعض في تدمير الوطن هو الجهل، فإن الأساس الأخطر، الذي بنيت عليه الأزمة، هو انعدام الأخلاق، فانعدام الأخلاق هو الذي يؤدي إلى تشويه الشرائع، واحتقار الشرف، وبيع الأوطان، وبالنتيجة فناء الأمم.. وهو العائق الأكبر لتطوّر المجتمعات، فالتطوير لا يعتمد فقط على الأنظمة والقوانين على أهميتها.. لكن الأهم أن التطوير ثقافة مبنية على الأخلاق، أي لا تطوير بلا أخلاق، هما صنوان متلازمان، قد تؤدي الأخلاق الحميدة والرفيعة لحسن تطبيق القوانين، ويمكن للقوانين الجيدة أن تنمي الأخلاق، لكن لا يمكن لها أن تزرع بذورها إن لم تكن قد زرعت مسبقاً في الأسرة والمجتمع.
الفساد التحدي الأكبر لأي مجتمع أو دولة
دون أخلاق لن يكون هناك شعور وطني في وجداننا، وتفقد الخدمة العامة معناها، وعملياً المفروض بحسب الشرائع أن الإنسان موجود لخدمة الآخرين ويستفيد من الخدمة العامة، سواء كان موظفاً أو أي شخص يعمل في الحقل العام والجمعيات الخيرية.. إذاً دون أخلاق لن يكون هناك شعور وطني في وجداننا وتفقد الخدمة العامة معناها.. ونتحوّل إلى أشخاص أنانيين يعمل كل واحد فيهم على خدمة نفسه على حساب الآخرين، وهذا ما رأيناه بشكل واسع في هذه الأزمة.. فكثيرون لم يحملوا السلاح لكنهم لعبوا بقوت الناس وتلاعبوا بمستقبلهم وسرقوا وابتزوا ونهبوا، وكانوا كالإرهابيين في خطورتهم.. فبغياب الأخلاق نصبح كمن يهدر الوقت للوصول إلى أهداف لا نملك الأدوات الضرورية للوصول إليها، بمعنى نريد أن نطوّر ولا ننجح، ونريد أن نكافح الفساد ولا ننجح، عندما تغيب الأخلاق. والحديث عن الأخلاق ليس بديلاً عن تطوير الأنظمة والقوانين أو مبرراً للتهرب من مسؤولية الدولة في ذلك.. فإذا كانت الأخلاق والثقافة هي الأساس، فتطوير إدارة الدولة ومؤسساتها هو البناء، وأي بناء دون أساس قوي سليم هو بناء آيل للسقوط.
انطلاقاً مما سبق يمكننا الحديث عن الفساد، على اعتبار أن الموضوعين مترابطان، فهذا الفساد يشكل التحدي الأكبر لأي مجتمع أو دولة، فالفساد المالي والإداري أساسه الفساد الأخلاقي، والاثنان ينتجان الفساد الأخطر وهو الفساد الوطني، الذي ينتج أشخاصاً يبيعون وطنهم ودماء أبنائه لمن يدفع أكثر.
إن مكافحة الفساد بحاجة للسير على أكثر من محور بشكل متزامن: الضرب بيد من حديد على كل فاسد تثبت إدانته، وهذا صحيح وضروري.. لكن عندما تضرب فاسداً قد ينتج المجتمع عشرات غيره، أكثر حنكة ودهاء ممن سبقه، ليحتال أكثر على القانون، فلا يكشف ولا يعاقب.. عندها سيكون الزمن في هذه الحالة بمصلحة الفساد والفاسدين. فإذا كان الحساب يأتي في قمة هرم مكافحة الفساد فهذا لا يعني أنه وحده كاف، وفي وسط هذا الهرم يأتي دور الإصلاح الإداري في مؤسسات الدولة، والذي يتمّ على مراحل، وهو موضوع واسع وتدريجي، وهو علم قائم بحد ذاته، ولا شك بأن الأزمة أخرت من السير بهذا المحور..
يضاف إلى ذلك تطوير مناهج التعليم بهدف جعلها عملية تربوية لا تعليمية فقط، والآن وزارة التربية تقوم بالتحضير لمناهج جديدة بشكل متدرج، وعلى مدى سنوات، إذ لا يمكن إنجاز هذا العمل الضخم خلال عام واحد.. لكن الأهم في ما بدأناه منذ مدة أن يشمل هذا التطوير أيضاً المؤسسات الدينية التعليمية، التي تخرّج الكوادر التي تحمل بدورها مهمة نشر التعاليم الدينية، بما تحمله من أخلاقيات، نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأيضاً في هذا المجال قطعت وزارة الأوقاف بالتعاون مع العلماء ورجال الدين في سورية خطوات مهمة جداً بدءاً بالمرجعيات، والآن سيستمرون باتجاه آليات التدريس والتعليم في مؤسساتهم.
الدور المهم للإعلام
وطبعاً لا ننسى في مثل هذه الحالة الدور المهم للإعلام، فالإعلام ليس الإعلام الذي يتحدّث بشكل عام عن الفساد أو ينتقده ويهاجمه، فهذا لا يغيّر من واقع الحال شيئاً، وإنما الإعلام الاستقصائي، الذي يبحث عن الحالات ويثبت بالأدلة والبراهين وجودها، وتقدّم كحالات متكاملة يمكن أن تذهب إلى المؤسسات المعنية سواء التفتيش أو القضاء لمتابعتها في إطار مكافحة الفساد.
هذا هو دور الدولة، وهو الدور الأقصر والأسرع، لكن الدور الأهم والأكثر ديمومة، والذي يشكل قاعدة الهرم وأساس مكافحة الفساد، هو دور المجتمع والأسرة تحديداً.. لننتج مجتمعاً غير فاسد، علينا جميعاً آباء وأمهات أن نربي أبناءنا تربية صالحة، ولنسأل أنفسنا: هل كان يمكن أن نرى ما رأيناه من فساد، تجلى على شكل سرقة أو استغلال أو خطف أو خيانة وطن أو غيرها من الموبقات، لو أن آباء وأمهات أولئك المنحرفين ربوا أبناءهم تربية صالحة؟!. بالمقابل ماذا عن الملايين من الشرفاء من العاملين في الدولة وخارجها أو الشباب الذين قرروا أن يحملوا السلاح ويستشهدوا دفاعاً عن الوطن، ماذا عن المواطنين الذين قرروا الاستمرار في واجبهم الوطني رغم التهديد والعائلات التي صمدت وبقيت ملتصقة بأرض وطنها رغم الظروف القاسية؟. كل أولئك لم يقوموا بذلك بناء على أوامر أو أنظمة إدارية أو توجيهات عليا، بل قاموا بها لأنهم تربوا في بيوتهم تربية صالحة أنتجت للمجتمع شرفاء ووطنيين.
هذا الأساس، وهذه التربية، هو الذي يجعل المواطن يلتزم بالقانون عن قناعة لا عن خوف من العقوبة.. والعاملون في الخدمة العامة يخدمون المواطنين برغبة لا بدافع الاستفادة الشخصية.. وتجعل صاحب رأس المال يعي أن السارق يسرق شخصاً أو بضعة أشخاص بينما بتهربه من الضريبة يسرق 23 مليون شخص..
هذا الأساس هو الذي يدفع مواطناً ليكون عوناً لأهله ومجتمعه في الأزمات بدلاً من استغلالهم.. ويمنع مواطناً آخر من التحوّل إلى مرتزق يستخدم ضد وطنه كلما احتاجه متآمر أو غريب.. وهذا الأساس هو الذي يجعل كل الإجراءات الأخرى التي ستقوم بها الدولة ذات فعالية وذات تأثير بالعمق والمساحة.
فلتكن مكافحة الفساد هي أولويتنا في المرحلة القادمة في مؤسسات الدولة والمجتمع ككل.. دعونا نضعها أولوية ليس أمام المسؤول فقط بل أمام كل فرد فينا.. لينتقل كل واحد فينا من مجرد الحديث عنه إلى العمل الحقيقي لمواجهته.. لنضربه من الجذور بدلاً من هدر الوقت في تقليم الفروع.
إعادة الإعمار عنوان اقتصاد المرحلة المقبلة
أيها السيدات والسادة
لقد حاولت الدول التي تقف خلف الإرهاب في سورية تدمير مختلف أسس الحياة فيها، فبالتوازي مع عمليات القتل التي طالت كل شرائح الشعب السوري دونما استثناء أو تمييز.. كانت عمليات تدمير البنى التحتية، التي بنيت عبر عقود من جهد ومال وعرق ودم أجيال من السوريين، تسير بشكل منهجي، ولا شك أن هذا التخريب الشامل، الذي أصاب الوطن، قد أصاب كل فرد فيه، وخاصة في الجانب المعيشي، وقد أضاف هذا الجانب إلى التحديات والهموم الكثيرة اليوم هاجساً آخر هو الهاجس المتعلق بأرزاق الناس.
كلكم يعرف الهجمات الإرهابية التي تحصل بشكل مستمر على حقول النفط، وهي أحد أهم الموارد المالية لخزينة الدولة، وأيضاً الهجوم على خطوط الغاز، التي تقوم بشكل أساسي بتغذية محطات توليد الكهرباء، والهجوم على محطات توليد الكهرباء من أجل تدميرها وتخريب خطوط الكهرباء، التي تصل بين المدن والمحافظات، ما أدى بالمحصلة إلى أن تنخفض نسبة تغذية الكهرباء في كل المناطق السورية إلى بضع ساعات في اليوم.
أما السياحة التي كانت مزدهرة في سورية، وكانت مورداً مالياً مهماً للدولة وللمواطنين، سواء الخارجية أو الداخلية، فنستطيع أن نقول: إن نسبتها الآن تساوي الصفر تقريباً..
والظروف التي مرت تغيّر أولويات الدولة، كما أنها أظهرت الكثير من الأشخاص الذين لا يمتلكون ضميراً، فيتهربون الآن من دفع الفواتير وتسديد الضرائب وغيرها، وكل هذه المشاكل تراكمت لتؤدي إلى حالة اقتصادية صعبة يشعر بها كل مواطن سوري من دون استثناء.
وبما أن الضرر الأكبر، الذي أصاب الاقتصاد، هو في تدمير البنى المادية الحيوية لنمو الاقتصاد واستمراره، فإن تعافيه يجب أن ينطلق من نفس النقطة، وذلك بالتركيز على استعادة هذه البنى المادية من أبنية ومساكن ومصانع وطرق وبنى تحتية وغيرها مما دمّر وخرّب.
هذا بحد ذاته قطاع واسع جداً يشمل بفوائده كل الناس والشرائح دون استثناء، وينعكس إيجاباً وبقوة على القطاعات الاقتصادية الأخرى، التي لن تستعيد عافيتها دون إعادة الإعمار..
نعم أيها السادة، إن إعادة الإعمار هو عنوان اقتصاد المرحلة المقبلة.. وسنركّز جميعاً جهودنا على هذا الجانب، مع العمل بشكل متواز على ترميم كل القطاعات الأخرى، التي ستكون مكملة وداعمة لإعادة الإعمار.. وأركز هنا على الأعمال الحرفية والصناعات الصغيرة والمتوسطة التي يمكن لها أن تنمو بشكل سريع وكبير، وأن تخلق فرص عمل بوقت قياسي نسبياً.. بالإضافة إلى استمرار التركيز على دعم القطاع العام والزراعي كقطاعين استراتيجيين، كانا ولا يزالان يشكلان الرافعة الأساسية للاقتصاد السوري، ومن أهم عوامل الصمود خلال الأزمة الحالية.
وعندما نقول: إن إعادة الإعمار هو اقتصاد المرحلة المقبلة، لا يفهم من كلامنا الانتظار حتى انتهاء الأحداث، علينا أن نبدأ من اليوم.. وقد بدأت الدولة بالفعل بإصدار التشريعات والقوانين التي تشجّع وتسهّل البدء في الاستثمار في هذا المجال.. وفعلاً انتهت الحكومة مؤخراً من إصدار التشريعات المتعلقة بمنطقة كفرسوسة في مدينة دمشق، وهي أول منطقة سنبدأ فيها إعادة الإعمار، وطبعاً ستشمل الفوائد أولاً مالكي الأراضي، وهم في مثل هذه الحالة لا يعني أنهم من ميسوري الحال، فمعظمهم من الفقراء، لأنهم لم يتمكّنوا من استثمار هذه الأراضي بسبب مخالفات وتفاصيل أخرى.. وستشمل المقاولين والعمال وستشمل الدولة نفسها وبشكل خاص الإدارة المحلية التي تملك جزءاً من هذا الموضوع.. خلال أشهر سيتمّ توزيع الحصص، والمفترض حتى نهاية هذا العام أو بداية العام المقبل أن نكون قد بدأنا على الأرض بإعادة إعمار هذه المنطقة، وتعميم هذا النموذج على كل المناطق التي أصابها التهديد في المحافظات السورية الأخرى، وفق ما تسمح الظروف الأمنية.
فلنبدأ جميعاً يداً بيد إعادة إعمار سورية، لنكون جديرين بها، وليكون السباق مع الزمن لصالح البناء لا التخريب، ولنثبت كما فعلنا خلال سنوات ثلاث أن إرادة السوريين أقوى بأضعاف من عمل الإرهابيين والعملاء.
اليوم ننطلق جميعاً إلى مرحلة جديدة
أيها الإخوة والأخوات
في هذا اليوم ننطلق جميعاً إلى مرحلة جديدة، أهم ما يميزها هو: الإجماع على حماية الوطن وإعادة بنائه أخلاقياً ونفسياً ومعنوياً ومادياً.. أهم ما يميزها هو الإجماع على القضاء على الإرهاب واستعادة كل من شذ عن الطريق الصحيح إلى الحاضنة الوطنية.
وإننا إذ ننظر اليوم إلى المستقبل فإننا بحاجة إلى معالجة الثغرات الوطنية الكبيرة، وهذا يحتاج إلى تضافر جهودنا وتكاتفنا جميعاً في المرحلة المقبلة.. ذلك يعني علاقة تفاعلية بين الشعب وقيادته وحكومته، فوجود قيادة لا يعني إلغاء الشعب وعدم الأخذ برأيه، ووجود حكومة وقيادة لا يعني بالمقابل الاتكاء عليها والاعتماد الكلي على أفرادها.. هذه العلاقة التفاعلية تعني أن نسير سوية باتجاه المستقبل المنشود، إذا كنا نريد النجاح.
من هنا انطلقت كلمة “سوا” التي تعني الارتقاء بحس المسؤولية لدى كل فرد فينا للسير نحو المستقبل.. و”سوا” تعني أننا معاً سنعيد إعمار سورية وبناء ما تهدّم، وأننا سنستمر بضرب الإرهاب وإجراء المصالحات في كل المناطق كي لا يبقى سوري واحد في مراكز الإيواء أو في مخيمات اللاجئين، وتعني أننا سنكافح الفساد بالقوانين والأخلاق، وسنعزز العمل المؤسساتي عبر تكافؤ الفرص وإلغاء المحسوبيات، فلا مبرر للتقاعس أو للسلبية في التعامل مع التحديات الوطنية، وكثيراً من السلبيات التي نراها في المجتمع إنما هي نتاج ثقافة عامة ترسّخت في عقولنا، ولا بد من استبدالها بثقافة المبادرة والتعاون والغيرية بدلاً من السلبية والفردية.. وقد يتساءل البعض: كيف لنا أن نقوم بذلك إن لم يستجب المسؤولون لمبادراتنا، وهو تساؤل صحيح، لكن لا يمكن تعميم حالة على الكل، ودائماً هناك من يسمع وهناك من يهتم.. ولكن علينا ألا نكل ولا نستسلم وأن نبقى نحاول وبشتى الطرق إلى أن يسمع صوتنا كي نساهم في العمل والبناء والتنمية وتصحيح الأخطاء.
لا بد من تحديد الأولويات
أعلم تمام العلم أن التوقعات كثيرة من هذا الخطاب، وأعرف تمام المعرفة أن النقاط المطروحة في الشارع كثيرة، وأكثر من أن يشملها خطاب، ومعظمها طموحات مشروعة، وكثير منها منطقي، لكن الحروب تفرض وقائعها على الأرض، ولا بد من تحديد الأولويات.. فهناك جيش بطل يدافع عن البلاد ويقدّم الشهداء، وهناك ضحايا أبرياء يسقطون يومياً بسبب الإرهاب في أماكن مختلفة.. هناك مخطوفون ومفقودون خرجوا ولم يعودوا تاركين خلفهم عائلات لا تملك إلا الأمل بعودتهم.. عدا عمن هجّر من منزله فأصبح دون مأوى، والأهم من دفع ثمن هذه الحرب من قوت يومه، فأصبح لا يستطيع تأمين المستلزمات الأساسية للعيش الكريم..
لا يمكن أن تكون هناك أولويات تتقدّم على التعامل مع هذه القضايا في المرحلة الراهنة، فعندما نتحدّث عن شهداء وعن أبرياء يسقطون فهم ليسوا مجرد أرقام.. عندما نتحدّث عن شهيد وعن ضحية وعن بريء يقتل أو يستشهد فنحن نتحدث عن عائلة فقدت أباً.. فقدت أماً.. فقدت أخاً.. فقدت أختاً.. فقدت ابناً.. فقدت ابنة.. وعندما نتحدّث عن مفقودين لا بد أن تكون أولوياتنا هي أن نبحث عن هؤلاء، نعرف ما هو المصير، إذا كان مخطوفاً أن نعرف كيف يمكن أن نستعيده.. هناك أشخاص لا تستطيع أن تأكل اليوم فقد كان لدينا فقر قبل الأزمة، ولكن لا يقارن بما هو موجود الآن، ولكي نعالج كل ذلك لا بد من تسخير كل جهودنا كمجتمع وكدولة من أجل دعم قواتنا المسلحة البطلة من أجل إنجاز كل هذه البنود..
فإذاً لا يمكن أن نقول لأهالي هؤلاء ولأهالي العسكريين ولأهالي المخطوفين وللجائعين اليوم أن هناك من أصابه الملل أو الحماس وسنضع رغباته أولويات أمام أولوياتكم.. وبالتالي القفز فوق هذه الوقائع، يعني الانفصال عن الواقع.
لو كان الربيع حقيقياً لانطلق بداية من دول التخلّف العربي
أيها الأخوات والإخوة
إن صمودكم هو الذي أعلن رسمياً وفاة ما سمي زوراً وبهتاناً الربيع العربي، وأعاد توجيه البوصلة، فلو كان هذا الربيع حقيقياً لانطلق بداية من دول التخلف العربي.. لو كان ثورة شعوب لنيل الحرية والديمقراطية والعدالة، لكان بدأ بأكثر الدول تخلفاً وممارسة للقمع والاستبداد.. تلك الدول التي كانت وراء كل نكبة أصابت هذه الأمة.. وراء كل حرب ضدها.. وراء انحرافها الفكري والديني وانحدارها الأخلاقي.. تلك الدول التي كان وجودها أهم إنجاز للغرب، وأهم سبب لنجاحات إسرائيل وبقائها في منطقتنا، ولا أدل على ذلك من موقفهم الحالي من العدوان الإسرائيلي على غزة.. فأين هي الحمية والشهامة التي أظهروها تجاه سورية أو الشعب السوري كما ادعوا؟!. لماذا لم يدعموا غزة بالمال والسلاح، وأين هم مجاهدوهم، ولماذا لم يرسلوهم للدفاع عن أهلنا في فلسطين؟!.
ما يجري في غزة ليس حدثاً منفصلاً أو آنياً
لكي نعرف الجواب لا بد أن نعرف أن ما يجري اليوم في غزة، أيها السادة، ليس حدثاً منفصلاً أو آنياً.. فمنذ احتلال فلسطين، وصولاً إلى غزو العراق، ومحاولات تقسيمه اليوم، وتقسيم السودان، هو سلسلة متكاملة، مخططها إسرائيل والغرب، وهذا من البديهيات بالنسبة لنا، لكن منفذها كان دائماً دول القمع والاستبداد والتخلف.
لنتحدّث عن الوقائع ونبتعد عن الكلام النظري، أليس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل هو الذي أقر لبريطانيا أن لا مانع لديه من إعطاء فلسطين لليهود «المساكين» عام 1915؟!. ألم تقم هذه الدول بتحريض الغرب وإسرائيل على شن عدوان 1967، الذي ندفع ثمنه حتى اليوم، من أجل التخلص من ظاهرة جمال عبد الناصر، التي هددت عروشهم في ذلك الوقت؟!.. ألم تكن هذه الدول هي الدول الداعمة لإيران في عهد الشاه، وعندما قررت الحكومة الإيرانية أن تتحوّل لتصبح بعد الثورة مع القضية الفلسطينية داعمة للشعب الفلسطيني وحوّلت سفارة “إسرائيل” إلى سفارة فلسطين، ألم تقم هذه الدول هي بالانقلاب على إيران لأنها قامت بكل هذه الأشياء؟!.. ألم تقم هذه الدول بدعم جرائم “الإخوان المسلمين وإخوان الشياطين” في سورية في النصف الثاني من السبعينيات حتى الثمانينيات ضد سورية، ضد الشعب والدولة، التي لم تقم بأي عمل معاد لتلك الدول؟!.. هذه الدول هي التي قدّمت مبادرة للسلام مبادرة الأمير فهد في عام 1981 للفلسطينيين وهددوهم إذا لم يقبلوها فستكون هناك أنهار من الدم، وعندما رفضت الفصائل الفلسطينية تلك المبادرة فعلاً كان هناك خلال أقل من عام الغزو الإسرائيلي للبنان، وتمّ على إثره إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ليس حرصاً على لبنان، وإنما حرصاً على إسرائيل..
هذه الدول نفسها هي التي أتحفتنا وفاجأتنا في عام 2002 بأغرب مبادرة مؤلفة من ثلاث كلمات “التطبيع مقابل السلام” والتي عدّلت لاحقاً لكي تصبح المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2002، حيث عدّلت بالشكل الأقل سوءاً من المبادرة الأساسية، ورد عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون بأنها لا تساوي حتى ثمن الحبر الذي كتبت به، وشن هجوماً على الفلسطينيين سقط خلاله المئات من الشهداء وخاصة في نابلس وجنين!.
وعندما اعتدت إسرائيل على لبنان في تموز عام 2006 قالت هذه الدول على لسان من يدعى سعود: إن هؤلاء المقاومين طائشون ومتهورون وضغطت على الغرب وإسرائيل من أجل عدم القبول بوقف إطلاق النار قبل القضاء على المقاومة اللبنانية!.
الدول التابعة كلفت بمهمة تمويل الفوضى
ولأن هذه الدول التابعة نجحت في مهامها، كلفت بمهمة تمويل الفوضى تحت عنوان الربيع العربي، وأعطيت قيادة جامعة الدول العربية، بعد أن تنازلت الدول العربية الأخرى عن دورها، ليختصر دور الجامعة باستدعاء الناتو وفرض الحصار على الدول والشعوب العربية، التي تخرج عن طاعة سيدها.
كل تلك الأحداث وغيرها كانت عبارة عن سلسلة مترابطة من أجل تذويب القضية الفلسطينية، وكل الأموال التي دفعتها تلك الدول، منذ نشأتها، كانت من أجل هذا الهدف فقط، وها هم اليوم في غزة يقومون بنفس الدور الذي قاموا به في سورية.. هناك عبر الإرهاب الإسرائيلي، وهنا عبر الإرهاب القادم من ثلاث وثمانين جنسية، فالأساليب تتعدد لكن هدفهم واحد والسيد أوحد.
وهذا ينقلنا إلى قضية مهمة أخرى، وهي أن البعض يعبر عن لا مبالاته بما يحصل في غزة اعتقاداً منه أن لدينا من المشاكل والقضايا الوطنية ما يكفينا، والبعض الآخر يعبّر عن شماتته بعدوان إسرائيل على الفلسطينيين كرد فعل على جحود وقلة وفاء البعض منهم لما قدّمته لهم سورية عبر عقود، وفي الحالتين هو تصرف ساذج، لأن ما يجري في سورية والمنطقة برمتها مرتبط بشكل مباشر بفلسطين وما يحصل في الأراضي الفلسطينية، والنأي بالنفس هنا هو كمن يشاهد النار تلتهم بيت جاره ولا يساعد في إطفائها ظناً منه أنها لن تأتي إليه وهي تتقدم رويداً رويداً.
القضية الفلسطينية ستبقى القضية المركزية
لذلك من يعتقد أنه يمكن لنا العيش بأمان، ونحن ننأى بأنفسنا عن القضية الفلسطينية، فهو واهم، فهي ستبقى القضية المركزية، استناداً إلى المبادئ والواقع، وما يفرضه هذا الواقع من ترابط بين ما يحصل في سورية وما يحصل في فلسطين، وخاصة أننا كلنا نعرف أن سياسات العالم والمنطقة، بما يخص هذه المنطقة، وخاصة الدول العربية، ترتبط بشكل أساسي بما يحصل في فلسطين.. هذا يتطلب منا أن نميز تماماً بين الشعب الفلسطيني المقاوم، الذي علينا الوقوف إلى جانبه، وبين بعض ناكري الجميل منه.. بين المقاومين الحقيقيين، الذين علينا دعمهم، والهواة الذين يلبسون قناع المقاومة وفق مصالحهم لتحسين صورتهم أو تثبيت سلطتهم، وإلا سنكون بشكل واع أو غير واع نخدم الأهداف الإسرائيلية، التي تسعى إلى تمزيقنا أكثر وإلى إيهامنا أن أزماتنا اليوم محلية منعزلة..
عندما نصدّق هذا الوهم بأن أزماتنا اليوم محلية منعزلة وغير مرتبطة بما يحصل في فلسطين فلا شك بأننا سنأخذ القرارات الخاطئة وستكون الحلول قاصرة والنتيجة فشل في معالجة أي مشكلة تمر بها دولنا.
أيتها السيدات أيها السادة
إن شعباً مثلكم قاوم وصمد وبقي في بلد تعرض لعدوان لم نر في شراسته مثيلاً هو شعب جدير بالتقدير والاحترام، وجدير بأرضه وتاريخه وحضارته.. هو شعب أعاد للثورة معناها الصحيح، وأثبت أن السوريين يعيشون بشرف، ويستشهدون بشرف، وأن عزتهم وكرامتهم أغلى عليهم من الحياة نفسها، وأن إيمانهم بالله منصهر مع إيمانهم بالأرض والوطن والشعب.
ومع أننا حققنا إنجازات كبيرة جداً في الفترة الماضية في حربنا على الإرهاب إلا أننا لم ولن ننسى الرقة الحبيبة، التي سنخلصها من الإرهابيين بإذن الله.. وأما حلب الصامدة وأهلها الأبطال فلن يهدأ بالنا حتى تعود آمنة مطمئنة.. وما العمليات العسكرية اليومية هناك والشهداء الذين ارتقوا من كل سورية، فداء لحلب، إلا دليل واضح وملموس على أن حلب في قلب كل سوري، فكيف لجسد أن ينسى عينه أو قلبه أو كبده.
فتحية للجيش العربي السوري.. تحية للضابط وصف الضابط والجندي، الذي لم يدخر شيئاً دفاعاً عن الوطن، ابتداء من نفسه وروحه، وليس انتهاء بعائلة تركها وراءه على أمل عودته سالماً..
تحية لمجموعات الدفاع الشعبية ولكل الشباب والشابات الذين حملوا السلاح دفاعاً عن كرامة بلادهم وعزتها وشرفها وكانوا رديفاً ومساعداً ومسانداً للجيش في كثير من المناطق..
والتحية الأكبر لهذا الشعب الذي كان احتضانه لأبنائه العسكريين، حاضنة لإنجازاتهم وأساساً لانتصاراتهم.
ولا ننسى الأوفياء من أبناء المقاومة اللبنانية الأبطال، الذين وقفوا جنباً إلى جنب مع أبطال جيشنا، وخاضوا المعارك المشرفة سوية على طرفي الحدود، وقدّموا الشهداء دفاعاً عن محور المقاومة، فتحية لهم ولكل عائلة شهيد منهم بادلتنا الوفاء بالوفاء، واعتبرت واجب الوقوف مع سورية كواجب الدفاع عن جنوب لبنان.
والشكر أيضاً لإيران وروسيا والصين، هذه الدول التي احترمت قرار الشعب السوري وإرادته طوال ثلاث سنين، ودافعت بحق عن مواثيق الأمم المتحدة في احترام سيادة الدول وعدم التدخل بشؤونها الداخلية.
أعداؤنا غادرون لكن إرادتنا قوية
أيها السوريون الشرفاء
التحديات كبيرة، والمهام جسام، ونجاحنا في مواجهة الصعاب، وثقتنا بأنفسنا، لا تعني التراخي والركون.. فأعداؤنا غادرون لكن إرادتنا قوية.. وبإرادتنا نحوّل المحنة إلى منحة.. وإذا كان الثمن الذي دفعناه كبيراً فلتكن إنجازاتنا في المستقبل معادلة له بل أكبر.. طالما أننا نمتلك الإرادة.
المرحلة الجديدة بدأت ونحن مستعدون لها، فسورية تستحق منا كل الجهد والعرق والعمل، ونحن لن نبخل عليها بشيء، كما لم يبخل أبطالنا بدمائهم وأرواحهم، وأنا سأبقى الشخص الذي ينتمي إليكم، يعيش بينكم، يستدل برأيكم ويستنير بوعيكم، ومعكم يداً بيد، ستبقى سورية شامخة قوية صامدة عصية على الغرباء، وسنبقى نحن السوريين حصناً منيعاً لها ولكرامتها.
والسلام عليكم.
وكان الرئيس الأسد استعرض قبل دخوله القاعة الرئيسية في قصر الشعب حرس الشرف وتشكيلات من الجيش العربي السوري البرية والبحرية والجوية بعد عزف النشيد العربي السوري.