ماذا يملك العرب في زمن التّحوّلات الكبرى؟!
عصر التّقانة الرقميّة، عصر الفجوات المعرفيّة وسقوط اليقينيّات والحقائق المألوفة، عصر إدارة العالم من الفضاء، من خلال الشّبكات العنكبوتيّة العالية التّعقيد.عصر السرعة،عصر الوصول، عصر الفورة والوفرة المعلوماتيّة، عصر عبور الزمن والجغرافيا المترامية الأطراف بكبسة زرّ واحدة. باختصار، عصر العصور هذا، ومع كلّ ما سبق من تسميات، هو عصر تجاور ذهنيّة القبيلة إلى جانب أعلى ذهنيّة توصّل إليها التّفكير والعقل البشريّ الحديث، أليستْ مفارقة كبيرة! أن تتجاور في نفس المرآة السّحريّة القبيلة والتّقانة العالية، أليس هذا واقعاً ملموساً للجميع؟!. حيث كلّ ما كان يبدو فوق واقعي غدا واقعاً، وكثير ممّا كان يدعى خرافةً أو خيالاً علميّاً غدا ممكن التّحقيق. إنّه زمن تحقّق الاستحالات وتحوّلها إلى ممكنات. وهنا يبدو السّؤال ملحّاً، لماذا يغمض كثيرون منّا حكومات ومجتمعاتٍ وأفراد العين عن رؤية كلّ هذه المتغيّرات المتسارعة حولنا؟ فلا نلمس تطوّراً فيما يقابلها داخلنا، ولا نرى تغيّراً في سلوكنا وأفكارنا التّقليديّة، بل ما نراه هو السّكون والسّلبيّة والانكفاء والنّكوص واللّامبالاة!. المفكّر الاقتصاديّ “جيريمي ريفكين” يحاول أن يحذّرنا بمنطق علمي، صادماً وعينا بكثير من الشرارات الكهربائيّة، مطلقاً على العصر الحالي تسمية “عصر الوصول” يقول: “إنّ أشياء جديدة، وتغيّرات جوهريّة حدثتْ في طبيعة النّظام الرأسمالي العالمي، أدّت إلى تحوّلات في عادات البشر وسلوكهم وثقافتهم “لكن للأسف ثمّة كثيرون لا يعطون أهميّة لهذه التغيّرات، متّكئين على خلفيّة قدريّة ترى بأنّ الإنسان سيبقى هو ذاته مهما تغيّرت الظّروف حوله. يا لهذا التّبسيط السّاذج الذي يتغاضى عن المخاطر الجمّة التي تواجه كائن عصر السرعة هذا، وتضعه وجهاً لوجه، عارياً أمام هذه العواصف العاتية التي اقتلعتْ كلّ ما سبق من معارف مألوفة من جذوره. اليوم يدار ويصاغ وعي العالم الجديد من الفضاء الذي يتحكّم بها أفراد غامضون وروبوتات تدير شركات عابرة للحدود تمد “خطوط أنابيبها” كشرايين في جسد العالم متحكّمة بضخّ الدّم والأوكسجين، والمقصود بهما هنا: “المعلومات أيّاً كانت ومحتواها الثقافي” تقرّر هذه الشّبكات شكل الوعي والتّواصل بين ملايين البشر، فالإنسان الحالي أصبح مختلفاً عن مثيله الآخر في العهد الرأسمالي المألوف الذي كان يقوم على التّملّك المحسوس لوسائل الإنتاج، بينما الآن في العالم الافتراضي، لا نستطيع تحديد الملكيّات وتلمّسها. لقد غدت السلعة التّجاريّة الأهمّ للاستثمار الآن “الثقافة”. المشغلون الغامضون الذين يتحكّمون بالفضاء والأثير يسعون بكلّ جهدهم للحصول على الموارد الثّقافيّة المحليّة الموجودة في كلّ أصقاع العالم والتّلاعب بها وبذاكرة الشّعوب وتراثها، بما يخدم أهداف الغزو الثقافي والعولمة الجائرة، وكأنّ ما حدث كما يقول الأديب “ناظم مهنا” يُعتبر تحقّقاً لنبوءة الروائي الألماني “هرمان هسّه” في روايته “لعبة الكريّات الزّجاجيّة” الذي رأى بأنّ السّيطرة في المجتمع المفترض القادم ستكون لـ “ثقافة التّسلية”: “مع نهاية القرن العشرين لم تعد التجارة هي الأهمّ عند الأمريكيّين، بل التّسلية”. والعالم الرأسمالي الصناعي أصبح عالم الرأسماليّة الثقافيّة. بدأتْ الفجوة تتّسع بين حضارتين، حضارة الإلكترون وحضارة من يعيشون خارجها، ما خلق عوالم اجتماعيّة جديدة وسلوكيّات مختلفة، وكأنّ هناك “كرة أرضيّة ثانية، فوق أمّنا الأرض..”.
من المؤسف أنّ الأفكار لا تتغيّر بالسّرعة التي تتغيّر بها هذه التّقانات العالية، بل هي تزحف ببطء ومواربة وصمت، وفجأة نرى أنّ ما نعرفه قد أصبح قديماً بغمضة عين، فالعالم الجديد بدأ يضغط على وعينا بقوّة قاهرة، بعد أن كان يفعل فعله بنا وبما حولنا بشكلٍ غير مفهوم لوعينا، فمثلاً: مصطلح “العصر الصّناعي” لم يُعرَف إلّا في نهاية القرن التاسع عشر على يد المؤرخ البريطاني “أرنولد توينبي”، وكان قد مرّ حوالي القرن على بدء الثورة الصّناعيّة. إنّ جيل الثقافة الجديد يفتقر للأرضيّة الصّلبة التي استند إليها آباؤه، يفكّر بالأشكال أكثر مما يفكّر بالكلمات، بالاستهلاك أكثر من الإنتاج. عالمه محصور بما يقدّمه له حرّاس البوابات الالكترونيّة، يعيش فيما دعاه المؤرخ “توينبي” بـ “عصر ما بعد الحداثة” وهو يتعارض مع العصر الحديث بشدّة. وذلك بسبب تحويل الوقت في العصر الرأسمالي الجديد، إلى سلعة تنعكس على الثقافة وتجارب العيش، بينما عصر “الحداثة” الذي أطلق على المرحلة الممتدّة من عصر الأنوار الأوروبي في القرن الثامن عشر إلى نهاية الحرب العالميّة الثانية، كانت الملكيّة الخاصّة فيه أساس العلاقات الإنسانيّة، وقد برز فيه المذهب العقلاني، والعلمي، والماديّة والأيديولوجيا ومفهوم التطور المستقيم، وهي بنى فوقيّة للفلسفة العظمى المبنية على قمّة نظام الملكيّة الشّخصيّة.
هكذا بعصر “ما بعد الحداثة” تغيّرت وتتغيّر مفاهيم كثيرة، كانت تعلّق بالحقيقة والطبيعة والإنسان، وستقوّض فكرة الحتميّة والحقائق الثّابتة.
إنّ إعادة التّشكيل من الإنتاج الصناعي إلى الرأسماليّة الثقافية سيصاحبه تحوّلٌّ من أخلاقيّات العمل إلى أخلاقيّات اللّعب، فالعصر الصناعي جعل العمل سلعة، وعصر الوصول الحالي جعل اللّعب هو السلعة، بالقبض على الموارد الثقافيّة وتسويقها، لتغدو سلع تسلية مدفوعة الثّمن بما في ذلك الطقوس والشّعائر المختلفة والفنون. حتى الحرب والدمار الذي تحدثه الآلة الجهنميّة يصبح نوعاً من اللّعب في العالم الجديد للرأسمالية الحديثة، والأوطان ساحة للعبِ القتلة والمستذئبين الدوليّين. إنّه زمن التحوّلات الكبرى فما الذي نملكه نحن العرب إزاء ذلك، يقول شاعر؟!.
أوس أحمد أسعد