ثقافةصحيفة البعث

ما بعد القراءة.. وخطاب المعرفة

على الأرجح أن عودة الكتاب إلى القراءة هي أكثر من فضاء لاستدعاء أسئلة القراءة بالمعنى المعرفي/ التراكمي، وبدورها -هذه الأسئلة- تستدعي تعزيز بيئة القراءة باستمرارها ومأسستها، حتى تنضج في وعي المتلقي خارج الطقوس الاجتماعية العابرة، بعيد انتهاء معرض الكتاب لأن بناء العقل عملية مركبة بامتياز، بدلالتها المخترقة للأزمنة والأمكنة، أي بما تصطفيه من مجتمع قارئ وقادر على الفعل الثقافي وإنتاجه… تلك صيرورة لا مناص منها حتى يستقيم الكلام عن الكتاب، وتتحقق دورات حياته في العقول تخصيباً وإنتاجاً ومعرفةً، فحوار العقول والأفكار والمنهجيات عبر أطياف المعرفة كلها، قادر على تشييد ذلك البناء لكن شريطة الوعي أولاً بالكتاب كحاجة عليا، كما الثقافة بذاتها، لعلها تتقدم الآن على سواها من حاجات لا سيما فيما نمر به من محن واستحقاقات جمّة، لعل في أولياتها استهداف الثقافة واختراق الثقافة، أي بغزوها الخارجي الذي يسعى إلى كي الوعي واستبدال منظوماتنا التربوية والأخلاقية والمعرفية، بمعنى عودة الحصانة عبر القراءة المستمرة بأبعادها الحوارية، إذ ليس حلماً أن نظفر بمجتمع قارئ رغم كل المتغيرات التي عصفت بالثقافة وخطاب الثقافة، بل بسائر البنى المجتمعية الأخرى، وما يمليه الواقع على القارئ المحتمل وربما الحقيقي من استحقاق لأسئلة الضرورة، لا المصادفات فحسب، هو الأكثر جدارة بإعادة تفحص أنساق الثقافة ومضمراتها وخطاباتها، حتى نتبين خصوبتنا الثقافية كيف تتموضع من جديد في معادلة أثيرة بناء الإنسان ومن ثم بناء الوطن، إذ إن التعويل على البناء الثقافي هو رهان ناجح بالضرورة، إذا كنا على قدر الاستجابة والتحدي لبعث هذه الخصوصية والفرادة في إنتاج وعي جديد، يتجاوز ما سعى الآخر إليه عبر محاولته احتلال العقول لا سيما في الحرب الظالمة على سورية في فضاء استحقاقها الثقافي. فالكتاب يعني الحوار، ويعني أكثر ذهاباً إلى التنمية المجتمعية، فالخصوصيات الفردية الإبداعية في فضاء التعددية الثقافية وقاسمها المشترك التنمية الوطنية، التي تُعنى بسؤال التنوير في فضاءاته الأوسع والأكثر رحابة لطالما سعى المثقفون الحقيقيون العضويون بالمعنى «الغرامشي» إلى ترجمة الثقافة إلى واقع محسوس لا تجريد الثقافة في أبراج عاجية أو جزر معزولة، فالفيصل هنا ربط المثقف بواقعه ليكون صورة عن تحولاته وصيروراته وآفاقه المنشودة.

تبتدئ القراءة حيث ينتهي معرض هنا أو هناك، ومعها تبدأ غير فعالية لا تخص الكتاب بل تحيل إلى الكتابة المحايثة للوعي الجديد والاستشراف الجديد، الذي يحملنا بدوره إلى واقع  جديد، لنستعيد أفعال الثقافة ونقف على بناة الأرواح ومهندسو الكلمة وصانعو المعنى، الذين يستلهمون روح مجتمعاتهم لصوغ عقد جديد مع المستقبل، يحتفي بالكتاب بوصفه منصة حوار مع العقول الراقية، ويفتح في أفق المتغير وبمعنى القدرة على التأثير والتغيير بما يطمئن إليه العقل في اجتراحه لجدلية الإنسان/ الوطن، وفي حقل الثقافة بمستوياتها وطبقاتها سيحايث الوعي مفهوم التغيير وذلك عبر ما تخصّبه القراءة بأفعالها الواعية، لثقافة وطنية تعيد تأسيسها استئنافاً ومراكمةً لضرورات البناء والانطلاق إلى ما يعنيه المستقبل، وهو قادم بالضرورة وبتسارع محسوب، حتى نصبح أكثر تمثلاً للغة العصر أي القدرة على جعل المستقبل واقعاً لا خطاباً فحسب، إنها ثقافة الحياة بأطيافها الملونة وبإيقاعاتها المختلفة، لكنها المتناغمة بهوية وطن قام حقاً قام، وبثقافة مبدعين حقيقيين جعلوا من الكلمة ميثاقاً جديداً لقيامة الأرواح، وأولئك لم يبرحوا شرفة المستقبل، وظلوا كوعد بالجمال لا يُستنفد من اتصلوا بالكلمة بوصفها حياة، ولم ينفصل في وعيهم أن البناء/ بناء العقل هو عملية مستمرة ومستدامة لأن تنمية العقول هي الأثمن في معركة البناء.

أحمد علي هلال