يا بابوار يا مولع؟!
د. نهلة عيسى
منذ ستة أيام أحدّق في “حنفيات” التلفاز، وقد تحوّلت إلى “ثورات.. ثورات”، كغار حراء بلا نبيّ، تجلّلها خيوط الدولارات “العناكب السوداء”، فتعوي في داخلي السخرية، يا رب: حتى عندما نرفع الصوت، لأننا من الجوع، العري، الذل قد سئمنا، تحاصرنا الصور، وتسلبنا الهدف، فنصبح مجرد ممثلين أو جوقة مهرجين في سيرك عالمي يمرّ في أرضنا!!.
أهرب من الجوقة نحو السطح لتفقد الواقع، يلاقيني المطر، فأغمض عنه عينيّ تأففاً: ليس وقتك يامطر، ماء منهمر ونحن رفاق الظمأ! فأعاود زحفي المقدّس لأسند رأسي على صدر التلفاز، علّني أسمع ولو وهماً، صوتاً يشبه صوت الشهداء، يدلني على صواب من أجله ماتوا، فلا أسمع سوى قرقرة أشبه بمااااااع، فأسقط في فخ وعي ليس زمانه ولا مكانه، أن من يسلط كاميراته علينا، يغرينا بإطالة المكوث في الشوارع بحجة الكرامة، يريد بصورنا التجارة، والعودة بنا إلى زمن الماااع؟!.
يتدفق المطر، ولا تتوقف القرقرة، وقلبي ثلج، ثماني سنوات نتعزى بأيوب، رغم أن أيوب نبيّ، ونحن مجرد بشر، أيها الرب: كلما داوينا جرحاً، نكؤوا لنا جرحاً، وكلما فزنا بامتحان خسرنا من العمر أعواماً، كم عاماً في العمر يحتمل كل هذا الصدأ، أيها الرب: لم يبق في جعبتنا غير الحكايات السيئة، غير الضجر، فماذا سنروي في تالي الأيام للأحفاد، ترانا سنقول لهم: كان يا ما كان عندما عشنا زمن المااااع؟!. ماااع على التلفاز، والمطر مدرار يغسل الشجر والحجر، ولا يروي عطشاً، ونحن بانتظار، ثماني سنوات يجمعنا مع الأمل ليل، ويفصلنا نهار قتال، لهاث ساخن وغبار، وأحبة يرحلون إلى تراب، ونخشى أن يرحل التراب، أيها الرب: ماذا يفعل المكلومون مثلنا، إذا ولّاهم العدو الظهر، وفي أكفهم بقايا سهم، هل يغرسونه في الظهر، أم يغفرون؟ أيها الرب: ونحن محاصرون بالمااع من كل جهة.. غفرنا، يا رب، ليس أيوب وحده النبي!!.
مااع، وقهوتنا بلا ماء، وحياتنا شرائط أخبار مليئة بالشجن، ووجوهنا الغارقة في سحب الدخان ما ابتسمت، تقرأ باهتمام ملحوظ التحذير: الدخان يسبب السرطان، فينتابنا الضحك، يا لخسران السرطان، لاحظ له في أعمارنا، فالمنافسة قوية، والغلبة للأسرع، والسكين، والساطور، والصاروخ، والهاون، ومن يجمعون القطيع، بعد التجربة، هم الأسرع، فنشعل اللفافة الثانية، لا يضير شاة سلخها بعد ذبحها!.
مااع، ونتوه في مدننا القديمة العجوز، نستلهم منها العبرة، نسألها بحكم الخبرة: أين خطوط النار؟ وكل شوارعنا نار، وهل ترى الرصاصة الأولى كانت هناك أم هنا؟ وهل الحصار على الحدود، أم الحصار ها هنا؟ حيث الجدران ظلال لأقواس نصر يكسوها الصقيع، تنتظر أشعة الشمس من الشمال، وترفع الأصبع محذرة: لا تصدقوا أكذوبة الشروق، كل الجهات ظلام، ووحده السيف يشق طريق النور، ألا تسبق العاصفة سقوط المطر؟.
مااع، وأرضنا ملقاة على صدورنا ظامئة رغم المطر، وقهقهة اللصوص تصمّ الآذان، تحاول سوق هودجها، والنهر سمّمه المغول، وصبرنا رغماً عن الإعياء، يستسقي جذور الشوك، ولا ينحني لبساط النفط، ولا لزناة الترك، ولا للطواويس التي نزعت تقاويم الحائط، وأوقفت الساعات، لتتجشأ حاضرنا في ماضي الزمان، إكراماً للسلطان، وسعياً للجلوس على موائد “ابن سلول”، يوزع النياشين على الخصيان، ويتباهى ملوك القش أنهم خصيان، ونحن صابرون.. صامدون!.
مااع، ونسأل زرقاء اليمامة، عن وقفتنا العزلاء بين السيف والجدار وقرقرة التلفاز؟ يا مبصرة، يا بصيرة: تكلمي، لا تُسكتي صوت الحق، من ذا غيرك يقول الصدق، هل عامنا هذا آخر الأضرحة، ألم يحن وقت الحصاد، وقت جني الثمر، يوسف أتمّ السبع، ونحن تجاوزنا الثامنة؟ تجيب زرقاء اليمامة: ظمئتم ثمانية من الأعوام ليرتوي الوطن، فَنَمت وردة صابحة حمراء في شرفة بيت في عين العرب، صابروا قليلاً، فبين الماء والماع حرف، فتحصنوا بالهمزة، واجعلوا حرف العين صليباً للخصيان.