ثقافةصحيفة البعث

“بشارة الخوري” يتمشى في حلب

 

 

لماذا يبالغ الشعراء إلى هذه الدرجة؟ وجدت نفسي أسأل هذا السؤال وأنا أتلقى دعوة كريمة لحضور واحدة من فعاليات “حلب عاصمة الثقافة السورية لعام 2019″، فالتفكير في الفعاليات والأجواء الحلبية، يستحضر إلى الذهن فورا القيمة الأدبية والحضارية لحلب، والتي شهد لها الشاعر “بشارة الخوري الملقب بالأخطل الصغير، في احتفالية لتأبين المتنبي أُقيمت في حلب عام 1935، وهي فترة ليست طويلة من عمر “سايكس بيكو”، ولذلك فإن شاعرا لبنانيا، عندما يصف حلب ويُبجلها كل هذا التبجيل، إنما يؤكد على أنه يمتدح مدينة من مدن بلده، ولم تقتنع نفسه بعد بتلك الحدود “الجديدة” عليه!
القصيدة التي ألقاها عن المتنبي، اختار أن يبدأها بأبيات مطولة في مديح حلب، فهل المتنبي وحلب شيء واحد بالنسبة ل بشارة الخوري في القيمة والعراقة؟
ولأن القصيدة عن المتنبي، وأول 20 بيتا شعريا منها في مديح حلب، فقد كان التحدي كبيرا أماما شاعرنا، الصعوبة أن القصيدة يجب أن تكون جيدة، أقل ما يمكن على مستوى المضمون والموضوع وهو “حلب والمتنبي”، هذا القلق هو ما دفع الشاعر أن يلوذ بالمبالغة، لقد التقط أن المبالغة هي جوهر شعر المتنبي، فداواها بالتي كانت هي الداء!
هل يجب أن نتسامح مع المبالغة إذا كانت جميلة؟ الشاعر يفتتح قصيدته هكذا: (نفَيت عَنكَ العُلا والظُّرفَ والأدبا/ وإن خُلقت لها إنْ لمْ تزر حلبا)، بهذا الوصف تغدو حلب هي المكان الذي إن لم يزره المرء، فإنه ليس فقط ناقص العُلا والظرف والأدب، بل معدومها حتى لو قُدّرَ له وخُلق من أجل ذلك، هذا البيت الشعري المبهر، يجعل من يشعر بالمبالغة يصمت، لأن من يقول هكذا شعر، هو شخص حساس، وشيخ من شيوخ الأدب، ويجب تصديقه.
ولكن إن كنا قد تجاوزنا البيت الأول، فلا بدّ أن نتوقف عند: (لو ألّفَ المجد سِفراً عن مفاخرِهِ/ لراحَ يكتبُ في عنوانهِ حلبا)، هنا ببساطة الشاعر يجعل من كلمة “حلب” عنوانا للكتاب الذي قد يختاره المجد للكتاب الذي يتحدث فيه عن الخصال والوقائع التي يتباهى بها! وهنا يتساءل المرء فعلاً إن كان يوجد كتاب أو سِفر من هذا النوع، سيظهر اسم حلب عليه مناسبا على الغلاف.
هل محبة “الأخطل الصغير” وإعجابه الشديدين بالمتنبي، قد دفعاه إلى عشق المدينة التي ارتبط اسمها باسم شاعرها؟ هنا أيضا سيتساءل من يقرأ او يسمع القصيدة، ما الذي يجمع بين المتنبي وحلب؟ هو لم يولد فيها، كما أنه في أشعاره يصف مدنا سورية عديدة، مثل أنطاكية، اللاذقية، ودمشق، فلماذا يربط العقل الجمعي بينهما سواء عند شاعرنا، أو غيره من الناس؟ قد يكون السبب إضافة إلى اللقاء الذي جمع بين قلعتها وأبياته، هو أن حال المتنبي بين الشعراء، يشبه حال “حلب” بين المدن، كلاهما مالئ الدنيا وشاغل والناس.
البديع في أمر هذه القصيدة البديعة، هو أن بشارة الخوري لا يصف فقط أمجاد حلب الغابرة وجمالها الذي ينافس شهب السماء بل إنه أيضا يجعلها، أساسا للنهضة العربية المرتقبة، فيقول:(لو أنصفَ العربُ الأحرار نهضتهم/ لشيدوا لكِ في ساحاتها النُصبَا)
وهنا لا بد للسؤال التالي أن يطرح نفسه: إن كان المنبر الذي وقف إليه “بشارة الخوري” قد أُقيمَ في ذكرى المتنبي وعلى شرف أدبه، وهو كشاعر كبير-أي بشارة-يعلم بالتأكيد أن وحدة الموضوع في القصيدة، أهم عناصر جودتها، ومع هذا يبدأ في مديح حلب مطلع قصيدته ولأبيات عديدة منها، ثم الانتقال إلى مديح المتنبي، فكيف يفعل هذا؟ إنه ببساطة يُدرك أن الحديث عن المدينة وشاعرها، لا يَخرج به عن وحدة الموضوع، لأنهما جرعة جمالية واحدة من ذات الكأس.

تمّام علي بركات