دراساتصحيفة البعث

سورية والعلاقات الأمريكية التركية

الدكتور سليم بركات
التطورات المتسارعة فيما يخص الأزمة السورية والتي أتت في أعقاب محادثات أستانة تشير إلى أن لروسيا موقفاً مستجداً من هذه التطورات، ولاسيما فيما يخص معركة تحرير إدلب من الإرهاب، بل وفي مواجهة الموقف التركي من الحرب الكونية الإرهابية على سورية أيضاً، وهذا ما يفسره الدعم الميداني الروسي للجيش العربي السوري وقواه الرديفة في هذه المعركة الفاصلة مع الإرهاب، والتي أتت على أثر تجميد العملية السياسية وفي طليعتها جمود اللجنة الدستورية، بسبب التدخل الأمريكي التركي ومن لف لفه لتعطيل أعمال هذه اللجنة، وليكون تدخلاً في الشأن السوري بدلاً من أن يكون حلاً لأزماته.
المتغير المهم في هذا الاتجاه هو التفاهمات الأمريكية التركية لتعقيد حلول هذه الأزمة، وتحفظ روسيا على هذه التفاهمات، وعلى ما اعتبرته تقارباً ما بين أنقرة وواشنطن على حساب التفاهمات الروسية التركية السياسية والعسكرية التي تتعارض ووجهة النظر المتطابقة بين روسيا وتركيا، تفاهمات تجاهلت هذه المرة وبعكس المرات السابقة التحفظات والاعتراضات والنداءات الروسية وبشكل متعمد، وبما يوحي إلى أن اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا قد أصبح بحكم الملغى، كما أن مسار أستانا برمته قد أصبح في مهب الريح فيما يخص الاتفاقيات التركية الروسية تجاه الأزمة السورية حصراً، ولا نبالغ إذا قلنا أن موقف موسكو من العلاقات التركية الأمريكية لا يمثل انقلاباً على مسار التقارب الروسي التركي كلياً، وإنما يعبر عن غضب روسيا من هذا التقارب وعن رغبتها في إعادة التفاوض مع تركيا حول إدلب والملف السوري بشكل عام.
أردوغان اليوم ليس في وضع مريح بسبب مناوراته المخادعة على هامش الخلافات الروسية الأمريكية، لكنه في حالة قد بات من خلالها مضغوطاً من الطرفين الأمريكي والروسي، إنه لا يملك إمكانية قبول مطالب موسكو الحليف التكتيكي، كما لا يملك رفض إملاءات واشنطن الحليف الاستراتيجي، إنه في حيرة من أمره وطموحاته العثمانية الاخوانية تتلاشى بعودة إدلب إلى حضن الوطن الأم سورية، الأمر الذي يؤكد ومن وجهة نظر تركية أن التفاهمات التركية الروسية فيما قبل كانت تفاهمات تكتيكية، وهي تتغذى على الخلافات الروسية الأمريكية، وهذا لا يعني أن أنقرة مخيرة بين علاقات طيبة مع واشنطن أو مع موسكو حتى تضطر إلى المفاضلة بينهما، وإنما يعني ومن منطق ما بعد الحرب الباردة أنها مازالت قادرة على التعامل والتفاعل مناورة مع مختلف الأطراف الدولية وبحسب المصالح الأردوغانية.
لم يسبق لأي أزمة حديثة ومعاصرة أن عكرت العلاقات التركية الأمريكية بقدر ما عكرت الأزمة السورية، ولاسيما في مجال التحالفية الجيوسياسية طويلة الأجل مع الولايات المتحدة الأمريكية ومكانتها في حلف شمال الأطلسي”الناتو”، تحالفية تتعارض وتعاون تركيا الزائد مع روسيا، ومع مكانتها في حلف شمال الأطلسي التي ترتكز على الغرب بالمجمل أمنياً ومصلحياً، ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على استعداد لبحث ملف إدلب وعند أي حالة طارئة، ليس مع “بوتين” و”ترامب” فحسب، وإنما مع كل من له علاقة فيما يخص الأزمة السورية، وقس على ذلك البحث فيما يخص منبج وشرق الفرات، يفعل ذلك وهو يعلن كاذباً أن مواقف تركيا ثابتة وستبقى كذلك.
ما يرغبه أردوغان من الدول الضامنة روسيا وإيران هو الضغط على سورية للإسراع في تطبيق المسار السياسي الذي يحلو له، ومن خلال وضع دستور جديد لسورية يتوافق ومشاريعه الإخوانية الإرهابية الشيطانية، وكذلك من خلال إيجاد حكومة انتقالية تتجه بسورية نحو انتخابات رئاسية برلمانية استكمالاً لمسارات جنيف الملغمة أمريكياً وصهيونياً بأموال خليجية، وهذا يعني أن التنسيق الأمريكي التركي الحالي في منطقة إدلب يأتي وفقاً لمبادئ العمل المشترك بين الطرفين، وبما يتوافق مع روح التحالف والتعاون الاستراتيجي بين تركيا وأمريكا، وما لا يختلف عليه في هذا الإطار من التنسيق الخبيث هو الاتفاق على تغيير نظام الحكم الشرعي في سورية بحكم آخر يرضى عنه أردوغان ومن يدور في فلكه من التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي.
اليوم وفي خضم الزحف السوري الروسي للحسم العسكري مع الإرهاب في إدلب، وبالضبط في مناطق الاحتلال التركي، توجد أعلى درجات التنسيق الأمريكي التركي في الحرب على سورية، تنسيق لم تتغير أهدافه منذ البداية وحتى يومنا هذا، وهذا بدوره يشكل رسالة تركية أمريكية إلى روسيا مفادها، أن الحرب العسكرية والاقتصادية ستبقى مستمرة على سورية ما لم توقف روسيا دعمها لسورية وتنهي استعادة مناطق إدلب ومحيطها الواحدة تلو الأخرى، وهذا ليس جديداً في السياسة الأمريكية ومن يغرد في سربها، لكنه اليوم في صدد الاحتواء للانتصارات العسكرية التي حققها الجيش العربي السوري وباقي قواه الرديفة بدعم روسي، الأمر الذي يعني أن موقف خصوم سورية وباقي محور المقاومة لم يتغير منذ بداية هذه الحرب الكونية الإرهابية على سورية، وبالتالي ستبقى تركيا تناور وهي تواجه الصعوبات البالغة على صعيد المفاوضات الدولية التي تجريها فيما يخص الأزمة السورية والتي ستؤدي إلى نتائج فاشلة على طاولة المفاوضات وفي الطليعة مع روسيا التي تدرك سلفاً النوايا التركية الأمريكية تجاه النظام السياسي في سورية، وهل نبالغ إذا قلنا أن التدخل التركي في سورية كان بتنسيق تركي أمريكي وإنه لم يكن في يوم من الأيام من أجل الشعب السوري، وإنما كان للاستحواذ على سورية، إنه زمن الخداع الأمريكي الكبير، إنه مهرجان الخيانة الأمريكية ومن لف لفها ليس فيما يخص سورية فقط، وإنما فيما يخص كل من تعامل مع أمريكا تاريخياً.
إننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن الهروب الأمريكي من فيتنام في عام 1973 وبعد سقوط “سايغون” عام 1975 كان خيانة للشعب الفيتنامي حيث الاقتتال بالأسلحة الأيديولوجية الشيوعية منها وغير الشيوعية! ومن ثم لم يكن وقوف أمريكا إلى جانب شاه إيران ضد الثورة الإسلامية عام 1979 إلا خيانة للشعب الإيراني ونصرة للمشروع الصهيوني! كما أننا لا نجانب الحقيقة أيضاً إذا قلنا أن وقوف أمريكا إلى جانب الكردية السياسية كان خيانة للشعب السوري! وبالتالي هل تتفاوض اليوم أمريكا مع طالبان إلا من أجل النفاذ بجلدها من أفغانستان؟. زد على ذلك هل نبالغ إذا قلنا أن لكل رئيس أمريكي عينه الخاصة على الناخب الأمريكي، بعيداً عن مصير أتباعه وأدواته من القوى المحلية، أليس هذا ما يفعله “ترامب” اليوم من أجل التجديد لرئاسة أخرى. لماذا نستغرب هذا السلوك الأمريكي والحقيقة تقول”: إن حلفاء واشنطن هم وحدهم من يتقلبون على جمر تقلبات السياسة الأمريكية الخارجية، وإن كل هذا سيصب القمح صافياً في طاحونة سورية وباقي محور المقاومة المدعوم من قبل روسيا والمقاوم للبلطجة الأمريكية!.
بقي أن نقول: إن هذه الحرب الكونية الكارثية التي تستهدف سورية هي صناعة أمريكية صهيونية رجعية، وستكون السبب إذا ما عزل ترامب أو خسر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، وبالتالي أليس في تجاهله للسياسة الروسية في سورية وتلاقيه مع المطالب الأردوغانية إشارة إلى فشله في إدارة العلاقات الدولية؟ لابد وأن تدفع أمريكا ثمن سياسة ترامب الفاشلة، التي ضحت بمصالح أمريكا مقابل المصالح الشخصية.