الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

هياكل.. طينية!

حسن حميد

تظلُّ السيرة الذاتية للأديب والكاتب والفنان مرآة أخرى شديدة الأهمية والغنى لكي تعرفنا إلى المبدع تعريفاً يضاف إلى إبداعه، وعادة ما تكون السيرة الذاتية كشّافة لجوانب من مواقف المبدع لا يفصح عنها المنتج الإبداعي، وعادة ما تتجلى هذه المكاشفة في أوقات الشدة والمداحمات الكبيرة.
ففي أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ــ 1944)، وحين تشابكت الآراء حولها، وتعددت المواقف، وسُدّت الآفاق، رأينا بعض الأدباء الألمان ينسربون في اتجاهات وممرات عدة، وكلها اتجاهات وممرات شفّت عن دواخل النفوس وما آمنت به. توماس مان صاحب رواية الجبل السحري بحث عن مخارج عدة لكي يغادر الأراضي الألمانية لأنه ما عاد يحتمل تبعات الحرب فهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليندد بالحرب وآثارها، واللامعقولية التي جعلتها تتفلت مثل ثور هائج يخرّب ويدمر ويقتل بعماء ظلامي رهيب، وحكم على خطل السياسات الألمانية التي آمنت بالقوة ليس من أجل الدفاع عن الأراضي الألمانية والمواطنين الألمان، وإنما من أجل سحق الآخرين وتركيعهم، وإلحاق من بقي منهم حيّاً بالسياسات الألمانية التي آمنت إلى حد اليقين أن ألمانيا هي رأس العالم المفكر، وهي عظمة العالم، وحق إدارة العالم هو حق للسياسة الألمانية التي ظلت تتخبط في عماء طويل امتدّ من بداية القرن العشرين، إلى أن انتهى في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد احتاج ذلك العماء الذي امتدحته القصائد والروايات والدراسات، وما قالته الصحف ومراكز الدراسات والبحث، إلى نصف قرن حتى بهت وترمد نهائياً.
كاتب آخر ألماني هو ستيفان تسيفايج بحث عن طريق للخروج لكي يغادر الأراضي الألمانية لأنه أحسَّ بأن دعوات السياسة الألمانية تستهدفه على نحو مباشر، وأن يد هذه السياسة تكاد تمسك به، خرج هارباً مع زوجته ليستقر، بعد محطات عيش في بلدان مختلفة، في البرازيل، وهناك لم يحتمل تبعات التفكير بالحرب وآثارها لذلك كتب رسالة طويلة لأصدقائه يخبرهم فيها أنه قرر الانتحار احتجاجاً على مفاعيل هذه الحرب التي لوثت الشرف الألماني، وأساءت إلى الضمير العالمي، ووأدت القيم النبيلة التي نادى بها أهل الإصلاح والفكر والعقائد والتربية والآداب والفنون، وأن الحياة التي يجسدها موقف الفرجة على أهوال الحرب وأخبارها الفواجع هي ليست بحياة، وأن الانتحار أكثر نبلاً كي لا يعدّ من المتفرجين على مآسيها وآثارها الباطشة، ودمويتها التي لا تليق بالإنسان.
وقد ظنّ الأصدقاء أن رسالة تسيفايج هي أشبه بنداء لإنقاذه، أو أشبه بتمهيد لسلوك ممر آخر قد يفضي إلى حياة أقل عذاباً وألماً، أو أنها صرخة حادة بوجه الحرب التي لم يكن لها من وقود سوى أجساد الجنود، أو أنها موقف شبه نهائي تجاهها، ولكن تسيفايج انتحر، وانتحرت معه زوجته التي أحبته وأحبها.
كاتبان آخران من الاتحاد السوفييتي، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، أحدهما استطاع الخروج إلى أوروبا هو فلاديمير نابوكوف، لم يهاجم الحرب وما تركته من آثار بقدر ما صبّ جام غضبه على النظام السوفييتي وفي جميع الاتجاهات، حتى اتهمه بأنه نظام غير إنساني، وكاتب سوفييتي آخر هو بوريس باسترناك صاحب رواية الدكتور جيفاغو، جعلته الحرب وظروفها من أهل التقلبات الغريبة، فبعد أن كان راضياً ومادحاً للنظام السوفييتي في السر والعلن، انقلب عليه بعد فوزه بجائزة نوبل، وبات ضد النظام ولكن من دون الجهر والمكاشفة.
من هذا نرى أن السيرة الذاتية كانت كشّافة لدواخل أصحاب الرأي، مثلما كانت كشّافة لمواقفهم، ففي هذه الدواخل والمواقف الكثير من الإفصاح عن علاقتهم بمفهوم الوطن والمواطنة.. وهذا ما رأينا بعض وجوهه السود في أثناء الحرب التي فرضت على بلادنا، لأن أصحاب الوعي الناقص والانتماء الملوّن بدوا، حين تخلّوا عن المعنى الوطني، هياكل عظمية.. أو قل هياكل طينية فحسب!
Hasanhamid55@yahoo.com