الدراما والتاريخ
محمد راتب الحلاق
التاريخ علم له قواعده وضوابطه وأطره المرجعية التي تمنحه الدقة إلى أقصى ما يستطيعه الباحث النزيه، مما يبعده عن أنماط السرد الأخرى. وقد عرّف اليونانيون التاريخ بأنه: علم التعرّف على الجدير بالمعرفة من الأحداث الماضية…. أما بالنسبة للمؤرخين العرب فقد تعاملوا مع التاريخ على أنه رواية الأحداث الماضية عن أشخاص ثقاة رؤوها أو سمعوها. والمؤرخ يدّعي أنه يقول الحقيقة الحقيقية، وهو صادق في محاولته تلك، اللهم إلا إن كان مدلساً.
والمؤرخ ملزم بالنزاهة وإيراد الحقائق ووجهات النظر كلها، والتعامل معها بدرجة واحدة من الأهمية، ولا يكتفي بالمراجع المنتمية إلى أيديولوجية بعينها، وإنما يستند إلى الوثائق والقرائن والشواهد، فإن كانت مصادره تعاني من النقص فإنه يشير إلى ذلك، ويصرح بأنه يجتهد ولا يقول الحقيقة التاريخية.
أما المبدع الذي يتخذ من الأحداث التاريخية متّكأً لنصه أو عمله الفني، فإنه غير ملزم بالحقيقية التاريخية كما جرت في الواقع، أو كما يتم تداولها، لأن المبدع خالق لعمله، ومن شروط الخلق أن يكون لا على مثال سابق. أي إن المبدع يتصرف بالحدث بما يخدم متطلبات المعالجة الدرامية، اللهم إلا إن كان العمل وثائقياً وتأريخياً (بوجود الهمزة فوق الألف) فعندها لابد من الالتزام بالوقائع.
فإعادة صياغة الحدث، وصنعه على نحو درامي، هو الذي يميز المبدع والفنان من المؤرخ. ففي حين يحاول المؤرخ أن يقدم بشراً حقيقيين كما كانوا في الواقع (حسب طاقته وقدرته) فإن المبدع يقدم شخصيات وأبطالاً ورموزاً. وكمثال لما أقول أحيل القارئ إلى ما كتب عن بعض الشخصيات التاريخية (المتنبي، الزير سالم، عنترة، وسواهم) وأترك للقارئ أمر المقارنة بين عمل المؤرخين وعمل المبدعين. .
والمبدع يبتكر شخصيات درامية لا وجود لها في الوثائق التاريخية، بقصد شدّ المتلقي بطرافتها، أو فصاحتها، أو سلوكها في الحب والعشق، أو الكره والحسد والغيرة…. وربما وضع المبدع على لسان الشخصيات ذات الوجود الحقيقي كلاماً لم تقله في الواقع. وما من عمل تاريخي درامي خلا من عاشق ومعشوق، ومن بهلول أومهرّج، ومن حاسد أو محسود؟!
في العمل الإبداعي يفقد التاريخ تأريخيته (بهمز الألف)، ويخرج من كونه وثيقة يمكن الاعتماد عليها، ويغدو فناً فحسب، أو عملاً درامياً (بالنسبة للمسلسلات والأفلام التاريخية)، أما تشابه الأسماء والمسميات فلا يعطيه أية مصداقية، ومن هنا جاء تخبط الذين يستشهدون بكتب الأدب لبناء تاريخ مرحلة ما، كما فعل جورجي زيدان ومن نحا نحوه، اللهم إلا إن أدخلنا عملهم في شمول الأدب وليس التاريخ.
أما الحوارات والسجالات التي تدور عقب عرض كل مسلسل تاريخي حول حقيقة الأحداث أو تزويرها فناجم عن الخلط بين علم التاريخ وما يكتبه الأدباء ويصنعه الفنانون والمبدعون، ولو تم الانتباه إلى هذا الخلط لأراحنا المختلفون من هذا الضجيج، فنحن
نحكم على العمل الفني بمقاييس الفن ومعاييره وليس بأية مقاييس أخرى..
قلت ما قلت بخصوص الأعمال الفنية والأدبية التي تتخذ من الوقائع التاريخية إطاراً لها، أما الأعمال الفانتازية وشبه التاريخية، فهي أعمال معاصرة بكل معنى الكلمة، وإن ألبسها منتجوها وصنّاعها لبوساً تاريخياً، ومنحوا شخصياتها أسماء تاريخية، ووضعوا على أجسادها لباساً زعموا أنه تاريخي، ووضعوا على ألسنة تلك الشخصيات لغة ذات أساليب تحاكي أساليب بعض المراحل التاريخية، أو إنها، على الأقل، تختلف عن الأساليب المتداولة في المرحلة المعاصرة، كل ذلك، فيما أرجح، للحصول على هوامش غير متاحة لانتقاد الواقع ومفاسده.