ثقافةصحيفة البعث

عزلة ترميم الذات

 

آصف إبراهيم

تمنحك العزلة الآن فرصة لكي تقف أمام ذاتك تتمعن فيها بحثا عن شيء افتقدته في ضجيج السنوات التسع الماضية التي أخذت منك تفاصيل كثيرة وهشمت بنية تفكيرك وهواياتك واهتماماتك المستقلة عن يوميات اللهاث خلف لقمة العيش، وتلبية متطلبات من حولك التي قد تكون غيّرتك إلى مجرد روبوت ينفذ أوامر بلا أي ردة فعل.. تمنحك خيار التحرر من تداعيات الأزمة وإعادة تدوير ماتبقى من مستقبلك، لعلك تستعيد بعض وجودك كإنسان مخير حسب القوانين والشرائع التي أطفأت رياح الفوضى شعلتها المحتضرة فحولتنا إلى كائنات مسيرة.

كل شيء يمكن وضعه أمامك، الآن على الطاولة، من أبسط الأفكار والأشياء إلى أعقدها، المهم أن لا ندع أيام الاعتزال تمر دون قراءة واقعية أو استشرافية، كأن نقول: حياتنا ما قبل كوروناهي غيرها ما بعده.

يمكن استثمار أوقاتنا بما يرمم بنيتنا السيكولوجية والروحية سواء بالعمل المتاح ضمن المحيط الضيق، أو بالقراءة، وحتى بالاستماع إلى مايروق لك من موسيقا، تنقي الذهن وتعين على التفكير السليم بالمستقبل ومراجعة حوادث مضت تركت علامات فارقة في شخصيتنا.

أجد نفسي الآن بعد سنوات مضت، أسترجع مجموعة من الكتب القديمة لإعادة قراءتها، أو جديدة لقراءتها، بدأت مع رائعة ماركيز “مئة عام من العزلة” التي وقع الاختيار عليها لفك عزلتي مع ذاتي لأن عنوانها يوحي بذلك التفرد، ثم انتقلت إلى رائعة ألبير كامو “الموت السعيد”، وأنا الآن بصدد قراءة “البومة العمياء” للروائي الإيراني الفيلسوف صادق هدايت، وسيعقبها “حرب نهاية العالم” للبيروفي ماريو بارغاس يوسا. ربما هي عناوين توحي بالمأساة لكنها غنية بالأفكار المحفزة على الإيمان بالغد الأفضل. يمكن لأي شخص الرجوع إلى عناوين تحقق له التصالح الذاتي، وتفتح له نوافذ نحو مدى واسع، وبين فواصل القراءة وجدتني أعود إلى موسيقاي التي رافقت بدايات اتساق ملامح ذاتي، وتلاشت مع الوقت بعد أن استهلكت زحمة الحياة كل وقتي وانشغالي، وجدتني استرجع أغاني الرائع عبد الحليم حافظ وأبو بكر سالم وعبد الوهاب الدكالي وغيرهم ممن كانوا يتناوبون على ترميم تقلبات ذاتي المزاجية والنفسية، وسلوى حياتي.

ربما هناك أشياء وأفكار كثيرة يمكن لنا القيام بها وكتب كثيرة لقراءتها في ساعة صفاء لعلها تحفز على إنتاج أفكار جديدة تفيد للأيام القادمة، فلا يدع احد منّا تلك العزلة تمر دون استثمارها بما يزرع الأمل العصي على التحقيق، لنعود إلى ضوء الشمس بحال أفضل ونبض أكثر انتظاما مما كان.