ثقافةصحيفة البعث

باشا المسرح.. وداعا!!

أمينة عباس

رحل عبد الرحمن أبو القاسم جسدا، تاركا وراءه سيرة عطرة ومحبة كبيرة كان قد زرع بذروها بحضوره الأبوي وتواضعه وابتسامته التي كانت لا تفارق وجهه.. برحيله سيفتقد كل من عرفه لمن كان لا يبخل بأبوته على أحد، كما ستفتقد الساحة الفنية من أغنى الدراما السورية بعشرات الأعمال التي ترك من خلالها بصمة خاصة به، ولاسيما في الأعمال التاريخية، ولعل أبرزها مسلسل “الجوارح” الذي لعب فيه دور الحكواتي ابن الرومية، كما سيفتقد المسرح ذاك الذي ظل مخلصا له حتى الرمق الأخير.. من هنا أكد محبوه في كلماتهم الغاصّة بألم الفراق أن رحيله خسارة كبيرة، فالراحل بأخلاقه وإخلاصه لقضيته وفنه لا يمكن أن يعوَّض.

خسارة لا تعوَّض

تقول ثراء دبسي: عبد الرحمن أبو القاسم أكبر من أي كلام، وخسارته لا تعوَّض.. كانت تربطني به علاقة إنسانية لا تُترجَم بكلمات.. مسيرة عمر في المسرح والتلفزيون والإذاعة.. كان مثالا للطيبة والعطاء والتواضع، وكان محبا وصادقا وإنسانا نبيلا قل أن يكون له شبيه.. هو لم يغادر وسيظل يضيء لنا منارات التيه التي نعبرها ويمهد لنا الطريق.

الأشجار تموت واقفة

وقال د. تامر العربيد: كل من يعرف الراحل لا بد وأن يُعَزّي نفسه ويشارك في وجع الفراق لرحيل هذه الشخصية الإنسانية والفنية الكبيرة والذي قضى حياته ومشواره الفني الطويل بما لا يُقاس ولا يُعَد، فكان صاحب الأدوار اللافتة على شاشة التلفزيون وعاشقا شغوفا بحب المسرح، ويليق به لقب باشا المسرح وسيد الخشبة بعطائه وحضوره وصوته الذي لا يُنسى.. كان الراحل صاحب همّ مسرحي لأنه كان يؤمن بأن المسرح مساحة للتنوير وفسحة للأمل والإبداع، فكان أحد العلامات الفارقة في تاريخ المسرح السوري.. من هنا، أعتز بأن الراحل كان بطلا لعدة عروض مسرحية قمتُ بإخراجها، ولن أنسى أبدا دوره في مسرحية “السمرمر”، حيث قام بأداء شخصية أسعد باشا العظم، وسيظل رحيله موجعا وخسارته كبيرة، وكان كالأشجار التي تموت واقفة بتجذره وصلابته وعشقه للأرض والهوية والمسرح والأصدقاء والأهل.. هو قيمة ومثل بأخلاقه والتزامه، ولأشهر معدودة مضت كان يبحث عن نص مسرحي يكمل به حضوره على خشبة المسرح ويكمل به شغفه وعلاقته مع الجمهور، لذلك خسرت الخشبة المسرحية فارسا من فرسانها ومبدعا من المبدعين الذين لاشا المسرحا يمكن إلا أن يكونوا في الذاكرة.. أيها المبدع، يا ب، يا صاحب الأدوار التي ستبقى في الذاكرة سيبقى لك دائما مكانٌ دافئ في قلب كل من عرفك، وسيبقى صوتُك ولهاثُك ولهفتُك تتردد على خشبة مسارح الحمراء والقباني.

الصديق والرفيق

الفنان هشام كفارنة قال: حينما كنتُ طالبا في الثالث الثانوي- القسم العلمي، ضقتُ ذرعا بالمنهاج المكتظ بالمعادلات والنظريات والجبر والهندسات والفيزياء والكيمياء، وللترويح عن نفسي اصطحبني ابن عمي إلى مسرح القباني عام 1977 لحضور عرض مسرحي للفنانين عبد الرحمن أبو القاسم وزيناتي قدسية.. ومن يومها رسمت الخط الأساسي لمستقبل حياتي التالية، حين قررتُ أن أكون مسرحيا يشتغل ما يشبه ما شاهدتُه تلك الليلة على المسرح.. وتمر الأيام وأتخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1982 ليكون لي فيما بعد شرف العمل معه بعدة عروض من إخراجي، وبعضها من تأليفي: بيت العيد، بيت بلا شرفات، شوباش، الغزاة، وهي عروض جلنا فيها بعدة أماكن ومهرجانات داخل القطر وخارجه، ما أتاح لي فسحة أكبر لتطوير العلاقة مع الراحل الكبير الذي كان الزميل والصديق والرفيق، وهو الذي عُرف عنه أنه كان راعيا للودّ ونجما متألقا في كل الفضاءات التي نقصدها، وناظم محبة للأسرة المسرحية التي كان يلتم شملها في كل تجربة نُقبِل على خوضها. في زمن الألم تتواضع الكلمات في إيفاء الراحل بعض حقه عليّ، فيا للحزن الذي لم يدع لنا فرصة لوداع يليق بفقيدنا الغالي.

الإنسان الحقيقي

الفنان يوسف المقبل: كان رجلا محبا صادقا في التعامل مع الناس.. عملْنا وسافرنا معا، وكان أبا للجميع، يوزع الفرح والحنان لمن يلتقيه، ولم يتحدث يوما عن أحد بضغينة أو كره أو حقد، وكانت الابتسامة لا تفارق محياه، حتى في فترة مرضه الأخيرة، وكنتُ دائما أسعد بلقياه وأسعى لذلك.. في المسرح عملنا معا في أكثر من عرض مسرحي، فكان مثالا للالتزام.. يحضر قبل الجميع، ولم يتأخر يوما عن بروفة، وفي أيام العروض كان يأتي قبل ساعتين من العرض ليجهز نفسه ويتوجه إلى الكواليس قبل نصف ساعة منتظرا دوره، ونادرا ما فوّت عرضا مسرحيا حتى لو لفرقة هواة، وبعد انتهاء العرض يصافح كل الممثلين ويثني على جهودهم، وقد سافرنا معا وكنا في لجان تحكيم مهرجانات مسرحية.. وبرحيله سنفتقد للفنان الحقيقي الذي يؤمن بدور الفن في طرح القضايا الاجتماعية والوطنية.

هرم مسرحي

محمود خليلي: لم ألتقِ في حياتي الشخصية والمهنية رجلا بشهامة الفنان والإنسان عبد الرحمن أبو القاسم.. محبّ بلا حساب، يفيض أصالة ونبلا، فنان استثنائي، يملك رصيدا كبيرا من المحبين قلّ نظيره في الوسط الفني لأنه يبادل زملاءه المحبة بعشرة أمثالها، وهو إرث ثقافي وفني ندر مثيله.. إنه الذهب العتيق بعينه، هذا الفلسطيني المتجذر في مساحة الوطن المحتل بأكمله والعاشق الذي لا يكل ولا يمل.. تناوبت علاقتنا وصداقتنا بين مسارين: الأول وكنت فيه شابا في بداية الطريق وكان تجربة ثرية في العمل الوطني الفلسطيني، تعلمت منه كيف يكون حب الوطن حقيقيا وصادقا، لا تعوضه الشعارات والخطابات الرنانة، إنه فعل وإصرار مستمر.. أما المسار الثاني مسار إبداعي مواز حيث جمعتنا فيه الكثير من الأعمال التلفزيونية والمسرحية، قد يكون على رأسها تجربته المسرحية في المونودراما والتي كان لي شرف شراكته في ثلاثة أعمال منها مصمما للديكور والأزياء والإعلان، وهي شراكة أعتز بها لما تحمله من هم وطني وإنساني وألق إبداعي: “بيت العيد” للمخرج هشام كفارنة و”بيان شخصي” للمخرج جهاد سعد و”تغريدة أبو السلام” للمخرج داوود أبو شقرة.. وفي تجربتنا الأخيرة المشتركة العرض المسرحي الثنائي “قصة حديقة الحيوان” للمخرج حسن عكلا.. لحظات كثيرة من الصدق الفني عشتها على الخشبة لا يمكن تحقيقها لولا الوقوف أمام هرم مسرحي بقامة عبد الرحمن أبو القاسم، شراكة لا تتكرر مع فنان يتمنى لك النجاح قبل نجاحه، تجربة ستبقى يومياتها تجول في ذاكرتي سنوات وسنوات، كيف لهذا الفنان أن يتكرر؟ كيف؟ وداعا سنديانة الفن الفلسطيني.. وداعا أيها الرجل النبيل.. وداعا سيد المسرح!!

ممثل استثنائي

ويقول قاسم ملحو: كان لقائي الأول بالراحل في نقابة الفنانين في دمشق عند المخرج هيثم الزرزوري، حينما كنت أستعد للمشاركة في أحد الأعمال في أول بطولة لي، حينها بادر الراحل بالسؤال عني، وفيما بعد اشتغلتُ معه الكثير من الأعمال، كان آخرها مسلسل “بروكار” وهو العمل الأخير له.. كانت تربطني به علاقة غريبة وعجيبة، فكنتُ أناديه دائما في مواقع التصوير بـ “يا عبدو” ويرد علي بـ “نعم يا أستاذ قاسم”، وكان الجميع يستغرب من تلك العلاقة الغريبة التي كان عنوانها الود والمحبة.. الراحل كان من الذين يؤمنون إيمانا كبيرا بالشباب ويشجعهم، لذلك كان ممثلا استثنائيا، ويحزنني أننا لم نلتقِ على خشبة المسرح، إلا أن الراحل كان دائما يحرص على حضور أعمالي المسرحية، وكان يسعدني كثيرا برأيه الخاص بي كممثل.

الأب الحنون

علي قاسم: تعود معرفتي بالفنان الراحل إلى أكثر من أربعين سنة، عرفتُه على خشبة المسرح وعلى شاشة التلفزيون، خاصة في دور ابن الرومية في مسلسل “الجوارح”، وشاءت الصدف أن اجتمعت معه كممثل في مسرحية “شوباش” تأليف وإخراج هشام كفارنة وكان فيها خيرَ معلم لنا أثناء مناقشة المسرحية وكان لا يبخل علينا بأية معلومة تخص الدور الذي سنمثله أو العرض المسرحي أو أية معلومة أخرى، تعلمنا منه الانضباط والحضور المبكر في البروفات وأثناء العروض، وكنت أحيانا أنتبه إليه وأراه يتألم ونحن نستعد من أجل أن نقدم المسرحية للجمهور، رافضا الاعتذار عن عدم تقديم العرض قائلا: لا يا أولادي، على المسرح أستمد القوة، والجمهور يعطيني طاقة كبيرة جدا.. وما إن يبدأ العرض حتى تتملكه طاقة كبيرة ويدوي صوته في أرجاء المسرح ونرى ممثلا شامخا قويا يسحرنا بتمثيله وعطائه على المسرح.. كان الراحل الأب الحنون الذي يتحفنا بحكاياته ويفيدنا بتجاربه ومشاركاته في المهرجانات العربية والدولية، وكان فنانا كبيرا وإنسانا عظيما، ومهما قيل فيه لن يوفيه أحد حقه.

رفيق درب

محمد خير عليوي: كان الراحل صديقا عزيزا ورفيق درب، وفي المدرسة الثانوية الصناعية كانت بداية مشوارنا الفني، هو اهتم بمسرح الكبار وأنا في العام 1964 بدأت مشواري بمسرح الأطفال والعرائس، في حين التحق الراحل بفرقة تابعة لتنظيم فلسطيني، وكان من أعز الأصدقاء.. رحل وخسارتنا فيه كبيرة لا تعوض.