“القراءة/ الكتابة”
محمد راتب الحلاق
تقوم بين فعاليتي قراءة النصوص وكتابتها علاقة تفاعل يتم تغييبها أو عدم الانتباه إليها، مع أن فعالية القراءة ترتقي في كثير من الحالات إلى درجة الندية مع فعالية الكتابة، الأمر الذي يسلب النصوص والآراء السائدة حولها الكثير من الهيمنة، ويهبط بها إلى مكانها الطبيعي في السياق التاريخي، لأن النص – أي نص – لا يمكنه أن يقول الحقيقة كلها دفعة واحدة، أو بالأحرى لا يمكنه أن يظهرها دفعة واحدة، وإنما يحاول أن يمرر بعض تجلياتها، وأن يقدم بعض الإرهاصات المتعلقة بها، بما يتساوق مع الشروط الموضوعية المتاحة، وبما يتناسب مع معطيات المرحلة الزمنية التي تتم فيها القراءة.
ووضع النصوص، أياً كان مضمونها وطبيعتها وانتماؤها المعرفي، في خانة السياق التاريخي تعني، عكس ما هو شائع، رفض إلغاء الزمن بيننا وبين منتجيها، وما تراكم في هذا الزمن من إنجازات وخبرات، فنحن نرى في النص الذي أنجز قبل خمسة قرون مثلاً ما لم يكن بمقدور قارئ معاصر لإنتاجه أن يراه، نتيجة تبدل الشروط التي تجري فيها عملية القراءة، ونتيجة التراكم المعرفي الذي أتاح للقراءة اللاحقة من الأدوات النقدية والمفهومات المعرفية والخبرات المتراكمة ما لم يكن متاحاً من قبل، من دون أن نهدر إنجازات الأقدمين بطبيعة الحال، فقد كان فيها قراءات ذكية سبقت عصرها، واستطاعت أن ترى في النصوص ما لم يستطع معاصروها أن يروه، وإن بقيت تلك القراءات أشبه بالجزر المنعزلة، وغالباً ما كانت منبوذة ومدانة وموضع ريبة وشك.
والقراءة التي أقصدها لا تستسلم لقراءات المشهورين من النقاد والدارسين، وإنما تحاول أن تعيد للنصوص بكوريتها وعذريتها، وأن تعقد عليها آمالاً أكبر، حين تحررها من رؤية عصر بعينه، وجيل بعينه، بل وفرد بعينه. أي تحررها من سطوة الأسماء المشهورة، التي سبق وأعطت رأياً فيها، وتدعوها إلى فضاءات أكثر رحابة. وهذه القراءة تحترم القارئ حين تحرره من الآراء السائدة، وتدعوه إلى تتبع النصوص عبر سيرورتها التاريخية، وتتبع حياة الحقيقة التي تحملها تلك النصوص، وكيفية التعاطي مع تلك الحقيقة داخل المجتمع بشرائحه المختلفة، ومحاولة اكتشاف أصابع السياسة والأيديولوجيا التي تحكمت بإنتاج النصوص وتداولها وطرائق التعامل معها، الأمر الذي سيساعد في وضع اليد على مجمل القواعد التي تحكمت في إنتاج النصوص عبر العصور، وتحكمت، من ثم، في عملية الاعتراف بها، واعتمادها، والسماح بتداولها.. أو نبذها ومحاربتها، وإبقائها خارج التداول العام.
وهذه القراءة المركبة المقترحة تتمتع بالفاعلية الإيجابية الفائقة، لأنها عملية (قراءة/كتابة) في آن معاً، إذ يكتب النص من جديد مع كل قارئ، بل مع كل قراءة، مما يؤدي إلى الإفلات من إسار الدوران مع قراءات المشهورين من النقاد والدارسين، وإلى تجاوز تلك القراءات عبر فعالية التأويل (والتمعني) بالاستناد إلى المضاهاة مع النصوص الأخرى وإلى القرائن، لتصل من ثم إلى مرحلة المشاركة في إعادة كتابة النص من جديد، وتحريره من الشرنقة التي حوصر داخلها، ليستأنف عملية الاستجابة للمستجدات.
فـ “القراءة/ الكتابة” تهدف إلى فهم النصوص وإعادة إنتاجها في ضوء الوضعية المشخصة للمجتمع، وهي وضعية متحركة بطبيعتها، نتيجة ما يستجد في المجالات المعرفية والاجتماعية والاقتصادية وسواها.
ولابد أن تتمتع القراءة المقترحة بالمشروعية الاجتماعية والمصداقية المعرفية في آن معاً، وأن تنظر إلى النص بوصفه حاملاً للحقيقة أو لظلالها، وساحة لصراع الإرادات حولها. وهذه (القراءة/الكتابة) لا تتخلى عن إرادتها الخاصة، وعندها الرغبة الدائمة في الدخول في حوار مع إرادات الآخرين.