“إلى الإنتاج در”.. طريق التعافي الاقتصادي لا يمر باستيراد السيارات بل بصناعتها محلياً
ألقت التسريبات المتعلّقة بقرار مرتقب، قد يكون في غضون شهرين، تسمح بموجبه الحكومة باستيراد 500 ألف سيارة مستعملة حجراً في مياه راكدة، لجهة تلقف الأسواق لمثل هذه التسريبات والبناء عليها، وبلد المنشأ لهذه السيارات (صيني وكوري بالدرجة الأولى)، وجدوى استيراد سيارات مستعملة أصلاً، ويبقى التساؤل الجوهري: أيهما أجدى وأنفع اقتصادياً وتنموياً: استيراد المستعمل، أم إنتاج الجديد، وإن طال المشوار وزادت الفاتورة؟!
مستهلك أم جديد؟
يرى البعض في السماح باستيراد سيارات مستعملة مكسباً وتعزيزاً لفرص ربحية، وأنها الطريق شبه الوحيدة للجم سوق السيارات الجامحة، والتي تباعد، مع كل ارتفاعات جديدة، بين المستهلك وحلمه في اقتناء سيارة، باتت مع تطور العصر سلعة أساسية لا كمالية. وبطبيعة الحال يبدو التّجار أكثر ميلاً إلى هذا الاتجاه القليل المخاطر السريع النتائج، ويبررون هذا الطرح بأن مثل هذه الصناعة تحتاج الكثير من تراكم الخبرات ووفرة الرساميل، وهو غير متاح في الوقت الحالي بالشكل الأمثل نتيجة الظروف الاقتصادية الحالية.
الإنتاج.. ثم الإنتاج
على الضفة الأخرى، يرى المستثمرون المتحمّسون لهذه الصناعة أن لا بديل عن الإنتاج، والبدء بخطوات حقيقية وجادة لتوطين صناعة السيارات، مهما كانت نسبة المساهمة الوطنية في إنتاجها متواضعة، لأن هذه المساهمة ستنمو باطراد مع مرور الوقت، فمشكلة نقص الخبرات واجهت كل الدول النامية الراغبة بدخول نادي صناعة السيارات العالمي، ولكن في المحصلة استطاعت أن تشقّ طريقها، وتثبت حضوراً يلبي على الأقل شيئاً من حاجة أسواقها المحلية، كما أن السوريين ليسوا أقل من غيرهم في الاستفادة من دروس وتجارب الآخرين، وحجز مكان لهم في هذا النادي، إن توافرت البيئة الإنتاجية والاستثمارية المشجعة.
عن التجربة الوطنية..
كان السماح بإنتاج السيارات عام 2006 خطوة في الاتجاه الصحيح، ولا شك بأن ملامح سيارة محلية الصنع، بهذه النسبة أو تلك، بدأت تظهر وتؤتي بعضاً من النجاحات، قبل أن تأتي الأزمة بتداعياتها الثقيلة لتطيح بهذه الصناعة الناشئة، وتحرم البلاد من صناعة باتت دول العالم تتسابق على تطويرها وتعظيم الاستثمارات المحلية والأجنبية فيها.
تفاوتت المشكلات والصعوبات التي عانت منها الشركات السبع المرخصة لتصنيع وتجميع السيارات في السوق المحلية، كما يقول مستثمرون، بين خسارة الآلات ومعدات الإنتاج، وبين تراكم الديون جراء توقف الإنتاج، والاستمرار في التزام هذه الشركات بدفع رواتب عمالها، وما يترتب عليها من حقوق ومطالبات عامة وخاصة، ما أوقعها في مشكلة نقص سيولة حادة.
أنقذوا صناعتنا!
يطالب أحد المستثمرين الجادين في هذه الصناعة بالتدخل السريع والحازم لإنقاذها، قبل أن تنهار تماماً، وذلك عبر المساعدة على إعادة إقلاعها من جديد بعد كل هذا التوقف، مبيناً أنه إضافة لتأثيرات وتداعيات الأزمة، وهي كثيرة ومتشعبة جداً، تعرضت لانتكاستين: الأولى عام 2018، عندما توقفت الشركات عن الإنتاج لمدة عشرة أشهر لدراسة الجدوى الاقتصادية لإنتاج السيارات، والثانية في 2019، عند توقف منح إجازات الاستيراد.
يقول هذا المستثمر: لقد تعرّض مصنعنا وغيره من المصانع لخسائر تُقدّر بمئات الملايين من الليرات السورية، نتيجة عدم القدرة على استجرار الطلبيات المتعاقد عليها مع الموردين، خاصة من الصين وكوريا وإيران، علماً أن هذه الطلبيات مدفوعة بالكامل ومخزنة لدى مستودعات الشركات المصنّعة، وندفع أجور تخزينها منذ تشرين الثاني من العام الفائت، وهذا فيه ما فيه من استنزاف لمواردنا المالية، والتي هي بطبيعة الحال موارد وطنية، وبهذا يكون المورّد هو المستفيد الوحيد من هذا الاستنزاف.
ويبدي هذا المستثمر أسفاً شديداً على الخسارات الكبيرة التي تعرّضت لها هذه المصانع، والتي تمثلت بالإغلاق وتسريح بعض عمالتها وفقدان البعض الآخر ممن دربته وأكسبته تجربة معقولة إلى حدّ ما، ما دفع بعد توقف هذه المصانع بأسعار السيارات في الأسواق المحلية إلى نحو جنوني، لأن لا شيء يكسر حدة هذه الأسعار سوى الإنتاج، إذ من غير المعقول والمقبول أن يصل سعر السيارة الكورية “كيا ريو” المستعملة مثلاً إلى 20 مليون ليرة سورية، بعد أن كانت بتسعة ملايين، وقسْ على ذلك بالنسبة لبقية السيارات؟!
الصالات الثلاث
هناك مهلة ممنوحة من قبل الحكومة للشركات المنتجة حتى عام 2022 لتحوّل مصانعها من العمل بنظام الصالة الواحدة إلى ثلاث صالات، والتي تفرض عليها رسوماً بنسبة خمسة بالمئة، حيث تشغل 350 عاملاً (نسبة العمل المحلي في الهيكل عالية لجهة اللحام والدهان)، وتصل تكلفة خط الإنتاج الواحد هنا إلى 35 مليون دولار، ينتج حوالى 10 آلاف سيارة سنوياً. أما رسوم الصالة الواحدة فتصل إلى 30 بالمئة، تشغل 200 عامل (نسبة العمل المحلي في الهيكل منخفضة لجهة اللحام والدهان)، فيما بقية قطع السيارة مستوردة، وتكلفة الخط بحدود خمسة ملايين دولار، وينتج نحو 2000 سيارة، لتكون التكلفة هي سبعة أضعاف، وتكون الرسوم الفائتة على الخزينة، جراء اختلاف الرسوم، 25 بالمئة، طبعاً مع فارق عدد العمالة المشغلة في الحالتين.
لا مستقبل للمستعمل..
يتجه أغلب دول العالم إلى الاعتماد على إنتاج السيارات بدلاً من استيراد المستعمل منها، وذلك بقصد تحقيق جملة من الأهداف، منها بناء قاعدة صناعية، ورفع معدلات التشغيل، وتوفير القطع الأجنبي، وخلق عمالة مدرّبة ومؤهلة، وما إلى ذلك من هذه الأهداف. كما أنه من المعروف أن ثمة عمراً افتراضياً لكل سيارة، هو مثلاً للسيارات الغربية واليابانية في المتوسط عشر سنوات، وللكورية والصينية سبع سنوات، وذلك بناء على عديد المعايير والمقاييس، فاستهلاك الوقود لسيارة حديثة سعة 1600 سي سي لكل 100 كم، هي بحدود سبعة لترات من البنزين، فيما هذا الاستهلاك للسيارة ذاتها، في حال كانت قديمة، يصل إلى 11 لتراً. كما أن مخاطر السيارات القديمة والمستعملة تصبح أعلى، ولعلّ تحليلاً بسيطاً لحوادث الطرق يشير بوضوح إلى أن عدداً كبيراً منها، تكون تلك السيارات مسؤولة عنها قياساً بنظيرتها الجديدة، فضلاً عن الخسارات التي يتكبدها المالكون والمال العام، جراء كثرة الصيانة وصعوبة تأمين قطع الغيار، وندرة كوادر الصيانة والإصلاح في بعض الأحيان.
قد لا تعوض
إلى ذلك، ما زالت الفرصة سانحة لإعادة إقلاع قطاع صناعة السيارات، الذي ضخّ فيه المستثمرون عشرات المليارات من الليرات، وهو قطاع واعد بالنظر لزيادة الطلب المحلي على السيارات بشكل متنامٍ، كما أن كفاءة السيارات المنتجة محلياً كانت جيدة بشهادة من اقتنى بعضها، ما يعني أن ثمة نجاحاً مأمولاً قد يكون حليفاً لهذا القطاع الوليد، في حال تهيئة الظروف الاقتصادية والاستثمارية والتشريعية المناسبة له.
أحمد العمار
ournamar@yahoo.com