“عندما تشيخ الذئاب” وميزات النص الروائي
لم يتسن لي مشاهدة المسلسل التلفزيوني السوري “عندما تشيخ الذئاب” أثناء عرضه الأول في الموسم الرمضاني قبل الفائت، لكن عرضه حالياً، على إحدى المحطات التلفزيونية السورية، أتاح لي فرصة مشاهدة واحد من أقوى الأعمال الدرامية، فكرة، وأداء، وبناء فنياً، وهو عمل يمكننا القول عنه بثقة، وقياساً بما شاهدناه من أعمال بالموسم الفائت، إنه من العصر الذهبي للدراما السورية التي غاصت عميقاً في قاع المجتمع ودهاليز تشكيلاته المختلفة لتخرج إلى السطح البعض من تناقضاته وصراعاته الفكرية والعقائدية والسلوكية المختلفة بجرأة ومباشرة لا مواربة فيها أغلب الأحيان.
العمل مقتبس عن رواية الفلسطيني الأردني الراحل جمال ناجي الصادرة عام 2008 الموسومة بالاسم ذاته، ونافست على القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية “البوكر” عام 2010.
ولعل جودة هذا العمل تحيلنا بالدرجة الأولى إلى أهمية البناء على نص يتسم بالنضج والتماسك، للتأسيس لعمل متكامل الوحدات الدرامية. ولا نأتي بجديد عندما نلمح إلى دور الرواية في نجاح أغلب الأعمال التي تنهل منها، مقارنة بالأخرى التي تغامر بنصوص تعدّ على عجل لكتاب لا يجيدون صنعة بناء العوالم الدرامية المتكاملة، ولا قدرة لديهم على تركيب الأحداث المتوالدة، في حين يتم الاشتغال على الرواية بروية وتمعن عميق، لأن كاتب الرواية لا يستعجله الوقت وهاجس اللحاق بالموسم.
بالعودة إلى المسلسل، فقد نجح كاتب السيناريو والحوار حازم سلمان، في إعادة تموضع بعض شخصيات الرواية، وتشكيل أحداثها لحرفها باتجاه ارتأى التركيز عليه وتكثيفه لإتاحة المساحة الضرورية للفكرة أن تأخذ حقها بالعرض والمعالجة من جوانبها المختلفة، بدءاً من مرحلة التبلور الأولى إلى الذروة، ثم النتائج، دون تبديد الزمن في محاور غير متوالدة من الفكرة الرئيسية، فهناك شخصية عزمي التي أداها الفنان الموهوب أنس طيارة بمقاربة بارعة، أعاد تموضعها ضمن أفكار وسلوكيات تستقل إلى حد ما عن دورها في الرواية، وقد وفق سلمان في ذلك لإيجاد نوع من التوازن والتنوع بين أطراف الصراع الأيديولوجي والفكري الذي تقوم عليه فكرة العمل، وجاء حضور طيارة اللافت في هذا الدور ليعزز الاجتهاد الدراماتورجي، ويضفي على الشخصية حيوية تشي بممثل قادر على التنويع في الأداء والفهم العميق لملامح الشخصية، هو الذي تألق في شخصية “ورطان” الكوميدية في “الواق واق” مع المخرج الليث حجو، نجده هنا أيضاً مجدداً ومتألقاً في مقاربة شخصية عزمي الجادة الطامح لشق طريقه نحو عالم الكبار بعد التخلص من إرث والده كاتب العدل على باب القصر العدلي، ليصطدم بتاريخ خاله “جبران” عابد فهد المثقف اليساري المعارض، الذي يصبح وزيراً فيما بعد، بعد أن تعريه غواية المال والسلطة.
الاستهلال بدور أنس طيارة لم يأت، لأنه الأفضل أداء بين الشخصيات الأخرى، ولكن لأنه الأحدث تجربة، استطاع مجاراة ممثلين محترفين، كالفنانين سلوم حداد، وعابد فهد، وسمر سامي، وعلي كريم، وأيمن رضا وغيرهم، ساعده في ذلك موهبته الفذة إلى جانب متانة الحوار وتماسكه.
في هذا العمل يؤكد سلوم حداد بأنه المبدع الذي لايؤطر ذاته في شكل درامي معين، بل يستطيع فك أقفال كل الشخصيات، وتقمص ملامحها بثقة عالية تجعل لحضوره أثراً راسخاً، حتى ولو تفرد بذلك ضمن عمل متواضع الإخراج والحبكة، فكيف وهو الآن يشتغل على شخصية مرسومة بحرفية روائي، ومهارة كاتب سيناريو، كشخصية الشيخ عبد الجليل “الجنزير” المركبة، التي تحتاج إلى ممثل خلاق بكل الاتجاهات والتكوينات الفنية، فمن قدم شخصية أبو نجيب، في مسلسل زمن البرغوث، وأصبحت حديث الناس، لن يجد صعوبة في التماهي مع شخصية تمتلك أكثر من سمة لرجل يتستر بالدين لإخفاء ماضيه الأسود وامتلاك ناصية الجاه والسلطة، وتطويرها درامياً ليصل إلى حالة المعايشة مستفيداً من كل التفاصيل، للملابس، والحركة واللغة وملامح الوجه وانفعالاته إلى أقصى حد.
“عندما تشيخ الذئاب” عمل يشد المتلقي بفكرته الجريئة المشوقة التي تنبض بالواقع الذي يتطلع المتلقي إلى فهمه، وإيجاد ما يعبر عن موقفه منه، وهي تتناول الصراع الأيديولوجي والسلوكي بين عدة تيارات اجتماعية تخوض معاركها بشراسة الذئاب حول النفوذ والعقائد والسلطة، لتتحول في النهاية إلى ضحايا مهزومة.
وثانياً الاشتغال الاحترافي على بناء نصي متكامل العناصر تتوالد فيه الأحداث بشكل حتمي، وليس مفتعلاً، ينتج عنه شخصيات درامية ناضجة لغة، شكلاً، وسلوكاً.
ويمكن، أيضاً الإشارة إلى التكثيف الزمني للرواية ليكتفي السيناريست بما يعزز الفكرة التي يحرص على وضعها تحت بؤرة الضوء دون غيرها، ما منح المخرج “عامر فهد” هامشاً كبيراً لهندسة الإطار الجماعي الذي تدور فيه الأحداث. حتى إن شارة المسلسل التي تؤدي أغنيتها الفنانة سارة فرح، تعبر عن الفكرة العامة وتلخصها وتشد المتلقي بكلماتها ولحنها وأسلوب أدائها. تأتي لتضيف بعداً درامياً غير مجاني للعمل.
آصف إبراهيم