نسيمُ الرّيح مصلوباً على نهر دِجلة
هناك الكثير من الشّخصيّات التّاريخيّة الإشكاليّة، القابلة لقراءاتٍ وتأويلاتٍ مختلفة. لعلّ الحسين بن منصور “الحلّاج” المتوفّى عام 922م، أكثرها غنى وإثارة للجدل. فمنذ استشهادِه المأساوي مصلوباً على نهر دِجلة، في تلكَ الحقبة الزمنيّة الفوّارة من الدور العبّاسي الثّاني الحافلة بالتّناقضات، حقبة الثّورات، ثورة الزّنج، والازدهار العلمي والفكري، والفساد والانحطاط الاجتماعي، وانقسام المذاهب والفرق الدّينيّة، ودخول الفرس إلى قلب الدولة وانتشار ثقافتهم بقوة. إلى درجة جعلتْ مفكّراً كـ ابن خلدون يقرّ بأنّ: “حملة العلم في الإسلام كان أكثرهم من العجم”. إضافةً لانتشار الثقافة الإغريقية، وبروز التّأثّر بالفكر الهندي واضحاً من خلال المصطلح الصوفي “الفناء الروحي” المأخوذ عن البوذية. في هذا البحر المتلاطم كان الحلّاج/ الشّهيد يسبحْ ضدّ التيّار، بل يغرق في اللّجة. وهو يهتفُ منتشياً:
يا نسيمَ الرّيح قولي للرّشـَـا لمْ يزدْنِي الوِردُ إلّا عطشــــــــــــا
لي حبيبٌ حبّه وسطَ الحشَا إنْ يشا يمشي على خدّي مشَا
روحُه روحي وروحِي روحُــه إنْ يشَا شئتُ وإنْ شئتُ يشَـــــا
ذمّهُ البعض، وامتدحه الآخر. وهناك من رفعه إلى مرتبة الأولياء وأصحاب الكرامات. مغدِقاً عليه الألقاب “حلّاج الأسرار” لكشفه أسرار القلوب. “حلّاج القطن” تبعاً لمهنة أبيه. المغيث، المميّز، المُقيت الخ. لمْ تنبثقْ الشّجرة الحلّاجيّة وحيدةً في صحراء، بل ثمّة أشجار سبقتها نموّاً في تربة الصّوفيّة، كـ معروف الكرخي، وأبو يزيد البسطامي، وسهل التّستري، والجنيد. لكنّ استشهادَه الرّهيب مقروناً بتجربته المميّزة ودعوته العميقة وجرأته الشّديدة هو من جعله يتبوّأ طليعة الحركة الصّوفيّة بربطه القولَ بالفعل، والكلمة بالممارسة، لتندغم حياته برسالته الروحية لدرجة اللِّاانفصال بينهما، وهو أوّل من كتب شعراً صوفياً خالصاً، لغايات روحيّة بحتة. ولمْ يعنه أنْ يصنّف يوماً بين الشعراء الفحول – كما يقول الأديب عبدَه وازن – لأنّ شعره ينتمي إلى شعر المعاناة والمكابدة، لا لشعر الشّكل أو المناسبة. وصنيعُه الشعريّ يقوم على المزج بين الومضة والفكرة، بين التأمّل والحدْس، بين الذّات والموضوع، وقد قِيل بأنّه كان يفكرِنُ الشعر بمعنى ما، ويشعرِنُ الفكرَ بمعنى آخر.
وكما اختُلِفَ حول شخصيّته وأفكاره، اختُلِفَ أيضاً حول نسبه، بين الفارسيّة والعربيّة، ورُويتْ عنه الخوارق، ليغدو أشبه بأسطورة تَروِي: بأنّ مياه دِجلة فاضتْ حين رُمِيَ رمادُه فيها، بعد صلبِه وتقطيعهِ وحرقِهِ. وبأنّه لم يمتْ، وإنّما شبّه لهم، وسيعود بعد أربعين يوماً الخ. كُتب عنه الكثير شرقاً وغرباً. ورصد المستشرق الفرنسي ماسينون 1736 كتاباً تناول تجربته في لغاتٍ شتى منها 892 كتاباً باللّغة العربية لوحدها. رغم كلّ محاولات تشويه تراثه وإخفائه ومنع الورّاقين من طباعة كتبه أو بيعها. والحقيقة تُقال، بأنّه لولا جهود هذا المستشرق الكبير لضاع أغلب تراثه. “فقد قضى من حياته ماينوف على الخمسين عاماً، محقّقاً، وجامعاً، ومصنّفاً، ما بقي من هذا التّراث المبعثر. وبادر إلى طبع “ديوانه، وكتابه الطواسين ، وأخباره وحكاياته، عام م1913 وعام 1914م. كما كرّس أطروحته الجامعيّة الضّخمة له أيضاً.
شكّلتْ الظّاهرة الحلّاجيّة نموذجاً أعلى للثّورة الروحيّة في الحضارة الإسلاميّة. جمعتْ بين التوجّه الإصلاحي ذي الصبغة السياسيّة، حيث اتّهِمَ بـ “القرمطة” والانتماء لثورة الزنوج، والدعوة الصوفية الصّرفة. وهناك من أسبغ عليه الصفة المسيحيّة انطلاقاً من قوله الشعري الشّهير: “على دين الصّليب يكون موتي/ ولا البطحَا أريدُ ولا المدينة”. وهناك من أوّل تضحيته على مبدأ “القربان الفلسفي” الذي نادى به “أخوان الصّفا” وهو نفس المبدأ الإغريقي الذي جعل فيلسوفاً كـ سقراط يتجرّع السّم. مستندين إلى قول الحلّاج: “تُهدَى الأضاحي وأُهدِي مهجتي ودمي”. قال فيه المؤرّخ ابن النّديم: “جاهلٌ مقدام جسور على السلاطين، مرتكب للعظائم ، يروم انقلاب الدّول”. وقال عنه المتصوّف الشّبلي: أنا والحلّاج في شيء واحد، خلّصني جنوني، وأهلكه عقلُه”. برز الحلّاج متصوّفاً عابداً، وثائراً متمرداً على النّهج السياسي القائم. وهذا ما قاده إلى حتفه. قال عنه المتصوّف “أبو بكر الشبلي”: (كنتُ والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلّا أنّه أظهرَ وكتمتُ). لمْ يتراجعْ حتى وهو على الصليب، بل خاطب ربّه في تلك اللّحظة الرّهيبة ليعفو عن معاقبيه، هاتفاً: “ربّي، اعفُ عن الخلق ولا تعفُ عني، وارحمهم ولا ترحمني”. وهو الذي كان قادراً على تحاشي مصيره المأساوي، الذي قاده إليه الوزير “حامد بن العباس” مدبّر المؤامرة التي أوصلته إلى السّجن والمحاكمة. نظراً لعلاقته الوطيدة مع أمّ الخليفة “المقتدر بالله” كما قِيل.
قُصَارى القول: كان الحلّاج سليلَ عائلة عريقة في الحبّ الإلهي ضمّت في بوتقتها كلّاً من ابن عربي، رابعة العدويّة، والسّهروردي، جلال الدين الرومي، وغيرهم كُثُر ممن أحبّوا الله حبّاً منزّهاً صرفَاً، لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، ومنهجُهم هو منهجُ ابن عربي القائل:
لقد صارَ قلبي قابلاً كلّ صورةٍ فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبــان
وبيتٌ لأوثــــــانٍ وكعبةُ طائفٍ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قــــرآن
أدينُ بدين الحبّ أنّى توجّهتْ ركائبُهُ فالحبّ ديني وإيماني
أوس أحمد أسعد