محمد الوهيبي.. رسام الجمال المقدس
تتشابه الملامح التشكيلية العربية في حقبة وأكثر بين أقطار الوطن العربي، وما يجمعها على الصعيد التعبيري والتقني ذلك الأسلوب المولع بالمهارات الحرفية والتقنية التي لا يمكن ردّها إلى الموروث البصري بحيادية، بل إلى ذلك التوجّه الروحي الذي يوحّد بين أبناء هذه الأوطان الصغيرة التي تنتمي إلى أمتها العربية، ولعلّ قلبها المبدع يربضُ في تلك البلاد المقدّسة التي أصاب أهلها وجع الحنين والهجرة مثلما أصابتها رسائل السماء، على الجانب الآخر من وجدانها تمثل إبداعاً في تجارب عديدة، كان أكثفها ما أبدعه الفنان محمد الوهيبي الذي تصادفُ هذه الأيام الذكرى الخامسة لرحيله، هذا الفنان الذي عاش حياة مكرّسة للفن واللوحة وتقديس الحياة، باحثاً في لغة بصرية عميقة عن دلالاتها ورموزها، عن خلاص لم يجده إلا فيما يرسم من جمال، حيث بدأت السيرة التي امتدت 67 عاماً من ولادة ذلك الطفل في وادي الحمام القريب من طبريا في فلسطين قبل النكبة بعام، ليستذكر ذلك الرحيل الطويل مع ظلّه المقطوع، ومع ما خبأته أمه في صدرها من هواء الجليل في آخر لحظات وقوفها على المرتفعات المطلّة على بحيرة طبريا، حين فتحت صدر ثوبها لتأخذ نفساً طويلاً يملأ روحها من هواء البلاد قائلة لابنها: “اقتُلعنا من الأرض، لكن لن نكون بعيدين عن هذا الهواء وعن ظلنا الخبيء في ظلال بيوتنا، فهي أكثر صبراً على انتظارنا”.
مثل أولئك الجالسين في ظلال بيوتهم حين ظهيرة يرسمون على الأرض دوائر أمل، يأتيهم من الغد رسم محمد الوهيبي الطفل، خطوطه الأولى في أول مخيمات اللجوء “مخيم خان الشيح” على ضفة نهر الأعوج -جار المخيم- رسم على زوارق من ورق مزينة بوشم العشيرة حملها النهر بعيداً إلى حيث لا يعرف الصبي أن هناك من ينتبه لرسائل تأتي من أكواخ اللبن والحجارة وصلت غوطة دمشق واستقرت عند أطراف البادية.
يرسمُ سطر النمل المكسور على الأرض بأناة وصبر مثل نملة، وقد تجلّى واضحاً بعد ثلاثين عاماً حين تفرّغ للفن وأضحى من الحفارين المتميزين بين أقرانه، وأبدع معرضه الفردي الأول في دمشق، وكانت قد سبقته سنوات طويلة مدرّساً للفنون ورساماً مثقف العين والفكر.
تعمّقت تجربته الفنية وتنوّعت من التصوير إلى النحت النافر “الروليف” والخزف، إلى فن الحفر “الغرافيك”، وتميّز بأعمال التيبوغراف وأعمال اللوحة المحفورة ذات النسخة الواحدة والتي نفّذها على خامات عديدة، وأبرزها تلك المرحلة التي ميّزت هويته التقنية كأحد الفنانين المجربين والباحثين في الأسلوب والتقنية، حيث الأحبار الكثيفة على الكرتون المعالج، ومن ثم يفعل بمنقاشه ما تفعله أدقّ أدوات الصائغ للمعادن النفيسة، فكان الفنان المؤلف والمحتفي بتجليات الخلق، وخاصة المرأة والأمكنة البعيدة في ذاكرته والرموز والزخارف البدائية التي تقترب من شكل الطوطم، حيث يرسمه الناس على مشغولاتهم وجدران بيوتهم أو يوشمون بها أبناءهم وبناتهم، وفي حسابهم أن هذه التعويذات ما هي إلا خطّ الدفاع المسالم أمام القادم من الأيام بما تحمله من مخاطر قد تصيبُ عيشهم. ذهب الفنان مع أولئك الناس يبحث في غيبيات تصاويرهم ليجعلها أيقونة لوحته وموضوعها الأثير لسنوات طويلة لم تتوقف إلا حين ارتطام روحه مع ما انتابه من فزع أصابه من هول الحرب والخوف والهجرة، حيث وصلت به الرحلة إلى فترة عالمه الذي سمّاه “اللامرئي”، وهو مجموعة كبيرة من اللوحات تجاوزت الـ 300 لوحة تختصرها تلك الجدارية المنفّذة بالأبيض والأسود، حيث يتوسّط المشهد هيكل عظمي للإنسان على كتفيه عباءة متدلية حتى القدمين مدججة بمربعات الفولاذ وفي الوسط طائر البوم فاتحاً جناحيه يتوسّل هذا الرعب.
توفي الوهيبي في أوروبا ودُفن في برلين تاركاً فينا شيئاً مقدساً من الخوف والحب، لعلنا ننجو به من وشم قد يمشي بنا إلى حيث اللاذاكرة.
أكسم طلاع