نفقات مثار تساؤلات!
لعقود خلت، الجميع يشهد النفقات المرتفعة التي تلفت انتباه من يتمعّن بها ملياً، بكل روية وتأنٍّ، ومنها بالتحديد نفقات الدعاية الكبيرة التي يصرفها بعض المرشحين على بعض المهام الرسمية أو المنظماتية الأهلية أو الشعبية أو النقابية، ما كان منها نفقات ورقية (عبارات أو صوراً) ملصقة جدارياً أو مثبتة خشبياً، أو معلقة بأحجام متعددة وبأشكال مختلفة، في مكان وآخر، والتي تصل مساحة بعضها إلى حوالي 15م2، وربما أكثر، عدا نفقات الدعايات الأخرى التي غالباً ما تتكرر يومياً أو أسبوعياً لعدة مرات، تلفزيونياً والكترونياً وإذاعياً، وعبر بعض الدوريات الإعلامية الورقية أيام صدورها، وغالباً يتبع ذلك بعض النفقات الأخرى العينية والمادية المتنوعة الأشكال والمآل، التي ينفقها بعض المرشحين، والتي تسبق وترافق أو تعقب نفقات الدعاية. والغريب في الأمر أنه قد يتجاسر بعض المرشحين لأن يدفع مبالغ مالية –بشكل مباشر أو غير مباشر، سراً أو علناً– لغاية كسب بعض أصوات الناخبين.
لقد شهدنا بعض هذه النفقات الباهظة عند بعض المرشحين لانتخابات الإدارة المحلية قبل عامين، ونشهد هذه الأيام مثيلها الأكبر بكثير في الترشيح لانتخابات غرف التجارة، علماً أنه لا يخفى على أحد أن بعض من يفوزون في هذه الانتخابات أو تلك، يحملون ألقاباً فقط، دون أن توكل إليهم أية مهام تدرّ عليهم دخلاً، فضلاً عن أن معظم من قد توكل إليهم مهمات لن يكونوا ذوي تأثير كبير في موقع القرار، مع الإشارة إلى أن مبلغ الرواتب الرسمية الشرعية –طوال مدة المهمة- لمن توكل إليهم مهام لن يغطي إلا جزءاً يسيراً من النفقات الانتخابية لبعض المرشحين، ما يجعل من الجائز التساؤل: ما السر وراء هذه النفقات الكبيرة التي يصرفها هذا المرشح أو ذاك، أم أن ما لا تتعب به الأيادي لا تشفق له القلوب، أو أن وراء الأكمة ما وراءها؟ وهل من دخل مستور مضمون يتحقق لاحقاً لمن فاز وتبوّأ مهمة، أم لم يتبوّأ، سيعوض له ما أنفقه ويزيد؟ أم أن الأمر معنوي بالدرجة الأولى، سواء فاز المرشح أم لم يفُز، وتبوّأ أم لم يتبوّأ مهمة، ولا غير ذلك؟ ولكن ألا تترتب على ذلك مخاطر وطنية كبيرة، نتيجة فوز بعض من يملكون نفقات الدعاية بغض النظر عن كفاءاتهم ومؤهلاتهم، وقطع الطريق على بعض أصحاب الكفاءات والمؤهلات الذين ربما لا يترشحون لقناعتهم بعدم النجاح، أو ترشحوا ولكن لم يحققوا فوزاً في الانتخابات، لعجزهم عن توفير الحد الأدنى من متطلبات نفقات الدعاية. أليس من المفترض بل المتوجب حصول تكاتف رسمي وشعبي لاجتناب أي إنفاق ينجم عنه هدر للمال الخاص أو العام، والعمل على توجيه كليهما في أعمال إنتاجية تدرّ دخلاً ينعكس أسرياً ومجتمعياً.
والسؤال المهم: هل يبحث أولو الأمر –على اختلاف مهامهم العليا والوسطى- في حيثيات هذا الإنفاق، ووضع النقاط على الحروف؟ وهل من المقبول أن ينبري أحدهم ويقول: هذه ديمقراطية وشأن شخصي يخص المرشحين بالذات، ولا علاقة للسلطات الرسمية بهم، فهم ينفقون من مالهم الخاص، أليس من المنطقي أن نتساءل: هل كل مواطن يصلح أن يكون عضواً في مجلس إدارة محلية؟ أو هل كل منتسب إلى منظمة نقابية أو شعبية أو أية جهة أخرى، يصلح أن يكون رئيساً أو عضواً في أحد مجالس الجهة التي ينتسب إليها، على اختلاف أنواع ومهام هذه العضوية حال تحققها لاحقاً؟ ولكن القانون السوري الذي يتيح فرصة الترشيح لمعظم الراغبين في الترشح إلى هذه الانتخابات أو تلك -إلا نسبة قليلة جداً- يتيح فرصة النجاح لغير الأكفياء والمؤهلين تحت تأثير المال الانتخابي، أو تأثيرات ذات اعتبارات اجتماعية تحت أكثر من عنوان، ما يجعل من الضروري جداً أن يتم العمل الرسمي الجاد والسريع، لإعداد واعتماد شروط ترشيح مدروسة لكل مهمة، من جميع النواحي، وبما يضمن تحقق فرصة الترشيح أمام أعداد محدودة ذات مؤهلات وكفاءات ومميزات مدروسة، تدفعهم بكل ثقة باتجاه الترشيح، وهم على ثقة تامة أن نتائج الانتخابات ستسفر عن تشكيلات جيدة من الناجحين، لأن أغلب المنضوين في هذه الشريحة –بل من المفترض أن يكونوا جميعاً- لا يجدون حرجاً عند نجاح أي منهم، لعلمهم وقناعتهم أن المرشح المؤهل يمثل جميع المرشحين المؤهلين عندما ينجح، ما يجعل أياً من المرشحين بغنى عن أية نفقات دعاية انتخابية لافتة، وحصرها بالحد الأدنى الذي يقتصر على التعريف بنفسه وطروحاته فقط، فمؤهلاته هي الدافع الأكبر للناخب، لا أساليب الدعاية العالية الكلفة. وبالمقابل، فإن الشروط الموضوعية المدروسة والمعتمدة للترشيح، ستضمن تجنّب ترشح من لا تتوفر فيهم هذه الشروط، ما سيؤدي إلى الحد الكبير من أعداد أمثال هؤلاء المرشحين، وبالتالي الحد من نفقات الدعاية الانتخابية المعهودة والمشهودة التي اعتادوها، سواء أثمرت أم لم تثمر، ويبقى من الإنصاف أن نشير إلى أن بعض هؤلاء الذين ينفقون أموالاً طائلة على الترشيحات الانتخابية، لهم مساهمات خيرية مشهودة –دورية أو عرضية- بعضها ذو نفع خاص وبعضها الآخر ذو نفع عام.