الكتب الذهبية..!
حسن حميد
أتابع، وبشوق باد، “سلسلة التراث العربي” التي تصدرها وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، والمخصصة للجميع، وإن كانت أهميتها الضافية أجلى حين يتابعها الناشئة وهم في طور الفتوة من العمر ليكتسبوا المعلومات والمعاني ويدركوا التعب الجميل الرابخ فيها، وليروا ما فعله الأجداد، وبمقدرة العارف، حين أصَّلوا الآداب عامةً، والفنون عامةً، وأحوال المعرفة وتشظياتها عامةً أيضاً، وما أبدوه من فذاذة في إبداع النثر، على مختلف صوره وأشكاله، وإبداع الشعر، على مختلف صوره وأشكاله أيضاً.
إن هذه السلسلة التراثية التي تجتذب الأديب والقارئ والمثقف والفتى الناشئ، ابن المدارس المتوسطة والثانوية، وأبناء الجامعات لهي الروح الجاذبة للجميع كي يعرفوا فنون المعرفة التي شُغل بها الذهن العربي قبل ألف سنة من أيامنا الراهنة من جهة، وليعرفوا الأركان الأصل التي قامت عليها الثقافة العربية التي ناددت الثقافات العالمية الأكثر شهرة آنذاك، وأعني الهندية والفارسية والرومية، وتقدّمت عليها بأشواط، ما زال أهل هذه الثقافات يقرّون بها وينحنون لها لأنهم جعلوها المهاد الذي بنوا عليه ثقافاتهم التي نعرفها اليوم.
وقد توافق أهل العلم، والعارفون بالتراث العربي، أن كتب التراث العربية الأهم أربعة هي: كتاب النوادر لأبي علي القالي، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، لأن المعرفة التي قرّت في هذه المؤلفات شديدة الغنى، وضافية، ومعانيها لا تنفد، ورؤاها ملأى بالنورانية والكشف، وعدا عن كل ذلك إحاطتها بموضوعها الشمولي الذي كان مذهب أهل ذلك العصر، فالمثقف والأديب والكاتب في عرفهم هو العارف الشامل، صاحب الثقافة الشمولية من الفلسفة إلى التاريخ إلى الرياضيات إلى الحكمة إلى العرفان إلى الشعر.
والحق أن سلسلة الكتب التراثية التي تصدرها الهيئة العامة السورية للكتاب التي اقتصرت على التعريف بأمهات الكتب التي شغلت الناس وأهل العلوم في زمانها، وجلو ما في مستبطناتها من أهمية، وإبداع، وأساليب، وتقنيات عرض، وبراعات واشتقاقات غير مسبوقة، لهي أمر شديدة الأهمية لأن الكثير من أهل الثقافة والمعرفة في زماننا الراهن لا وقت لديهم لقراءة آلاف الصفحات للكتاب الواحد لمعرفة ما في متونه وهوامشه، أو لمعرفة العصر الذي تحدّث عنه، أو لمعرفة أهمية الكاتب وما نهضت عليه روحه من إبداع، وموهبة، وإعداد، وقراءات، وفحص، ومقارنات، فأبقت على بعض المعارف وأسقطت بعضها الآخر، فعدّت الأولى أصولاً، وعدّت الثانية فروعاً، ودعت إلى الأخذ بالأصول والاطلاع على الفروع.
إن معرفة كتاب احتفت به الثقافة العربية، وغير العربية، مثل (أدب الكاتب) لابن قتيبة، المتوفى سنة 276 هجرية، في هذه المختارات التي قدّمت بذائقة إخلاص زهير الشيخ لهي الجاذبية كلها للمضي إلى هذا الكتاب، وهو في صفحاته الكثيرة، للارتواء من مائه المعرفي الذي يكاد يلخص أحوال الثقافة في عصر ابن قتيبة، كما يلخص فنون الأساليب الأدبية وما فيها من براعة وفذاذة. وكذلك هي الحال حين نقرأ مختارات من (أمالي أبي علي القالي) التي قدمتها عين د. ثائر زين الدين الرائية، وهي تتحدّث عن الأعلام، في مختلف الشؤون، وعن الآداب (شعراً ونثراً)، وعن الأخبار والنوادر فتقدّم عيونها ذات البريق والجمال والسحر، والحال هي كذلك في المختار من (التذكرة الحمدونية) بفطنة د.منيرة محمد فاعور، وفيها سيجد المرء أحوال المجتمع والعادات والتقاليد، وأنماط السلوكيات التي عرفتها المجتمعات العربية آنذاك، وأساليب التعامل بين الناس داخل البيوت، وفي الأسواق والدوائر العامة، وفي دور العلم والمعرفة.
إن سلسلة كتب التراث الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، التفاتة ذهبية إلى كتب الحضارة العربية التي وصفت بأنها الكتب الذهبية لأنها إن مرّت بها الأزمنة أبرقت وزهت وسمت في علوها ومكانتها المعرفية.
Hasanhamid55@ yahoo.com