مشافي الولادة القيْصريّة الآلية ودُور الرّعاية الثقافيّة
قد يبدو العنوان للوهلة الأولى غريباً، بيد أنَّ مَنْ يقلّب صفحاتِ (الفيس بوك) ويرى العدد الكبير ممَّنْ يدّعونَ أنّهم شعراء يعلم ما المقصودُ من ورائه.
شهدتْ عشْرُ السنوات الأخيرة تقدَّماً واضحاً لوسائل التواصل الاجتماعي، فمن النادر أنْ تجدَ أحداً لا يستخدم هذه الوسائط، ولاسيما (الفيس بوك)، الذي غدا منبراً يستطيع كلُّ امرئ أنْ يعتليه؛ ليعبر عما يريد قوله، وكان اللافت فيه أنّه صار دارَ نشْرٍ وبوقاً إعلامياً لكلّ منْ هبّ ودبّ ينشر في ردهاته بكل سهولة ما يشاء من دون قيدٍ أو شرط.
وأحبّ أنْ أتوقفَ عند شريحة مهمّة من المجتمع أسهمت صفحاتُ (الفيس بوك) في ولادتهم قبل أنْ تكتملَ شهور الحمل، فغدوا شعراءَ خدّجاً، وهم فئةٌ من الشعراء الذين وجدوا فيها دارَ نشرٍ مجانيَّة تنشرُ ما يرونه شعراً من دون أنْ يكون للمحرر الأدبي يدٌ في تشذيب النصوص وتدقيقها، وتسهمُ في الترويج لهم، لكنّ السؤال الأهم هل يمكن أنْ نطلقَ على كلّ ما تتحفنا به هذه الصفحات شعراً؟.
لا مُرْيّةَ أنّ هناك عدداً قليلاً ممّن ينشرون على هذه الصفحات هم شعراء بحقّ، وتُنبئ أشعارُهم عن شاعريّة فذّة، وكانت صفحاتُ (الفيس بوك) لهم كوّة جميلة يطلّون منها على الفضاء الرحْب عبر قصائد مُحْكَمة تفيض لغتها عذوبةً وصورها جمالاً، إذ غدت هذه الصفحاتُ طوْقَ النجاة لهم من النسيان والإهمال، بعد أن كانت عقبة الطباعة والنشر تشكل عائقاً أمامهم، ولاسيّما أنّ أجور الطباعة ارتفعت ارتفاعاً ملحوظاً يعجز الكثيرون عن دفعها.
مقابل هذه الفئة القليلة من الشعراء المبدعين نجد شريحة واسعة من الشويعرين والشويعرات تتحفنا كلّ يوم، بل كلّ ساعة بجمل وسطور تسميها شعراً، وهذه الجمل والسطور تفتقدُ حقيقةً إلى أدنى مقوّمات الشعر، ويصدّقون أنفسَهم في ظلّ النّفاق الثّقافي الذي يتكاثر كالطحالب على هذه الصفحات، وقدْ غدا من النادر أنْ تقرأ في تعليقات المتابعين لهذه الصفحات نقداً موضوعياً جاداً، فكلُّ ما نشره فلانٌ أو فلانةٌ رائعٌ وماتعٌ، فألبسَ هؤلاء المنافقونَ والنقادُ المداهنون أصحابَ هذه الجمل والسطور عباءاتٍ مزركشةً فضفاضةً، حتى ظنّ بعضهم أنّ شعره لا يقلّ أهميةً عن شعر جرير أو المتنبي.
إنّ ما تقدّمه هذه المساحات المفتوحة للنشر بلا رقيب أو حسيب أسهم في تشويه الشعر، وفي تشويه اللغة الفصحى وقواعدها، وعمل على تكريس اللهجات والعامية. فهذه الصفحات قد خدمتْ مدّعي الشّعر، وسلّطت الأضواءَ عليهم، وأوصلت ما يكتبون إلى جمهور من المتلقّين غير قليل، وأسهمت في تكريس النّصوص القَزَمَة التي تتكوّن من بيت أو بيتين، وطغى ما يسمّى بقصيدة النثر والشعر المحكي، ولكنها في الوقت عينه هدمتِ الشعر الحقيقي ذا النفس الطويل وذا الكلمات الجزلة والصور الماتعة.
ومما زاد في الطنبور نغماً تلك الشهادات التي تمنحها بعض المواقع الآلية لهؤلاء الخدّج، فغدونا نرى كثيراً من هذه الشهادات البراقة شكلاً والجوفاء مضموناً، ويسارع الممنوحون في نشرها على صفحاتهم وتنهال عليهم الإعجابات وآيات المباركة المبتذلة من كل حدب وصوب. والأنكى من ذلك أنّ بعضاً من هذه المواقع أضفى على بعض هؤلاء الخدّج ألقاباً علمية، وهم بعيدون عنها بُعْدَ الثرى عن الثريا، ومن السخرية أنّي أعرف أحدهم استهواه هذا الأمر، فصار يضع اللقب العلمي الذي منحته إياه تلك المواقع قبل اسمه!.
إنّ كثيراً من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم شعراء وجدوا في بعض الملتقيات الثقافية حضناً دافئاً لهم، ولاسيما الشويعرون ذوو الجاه والمال والشويعرات اللائي يمتلكن قسطاً من جمال، فهؤلاء لا يحتاجون إلى جهدٍ كبيرٍ ليصلَ ما يكتبونه إلى المتلقي عبر أمسيات شعرية تقام لأجلهم، فترى راعي هذا الملتقى يقدّمهم على حساب أصحاب الموهبة الحقيقية، ويتنقل بهم من مكانٍ إلى آخر، وغدت الشلليةُ تحكم هؤلاء وترعاهم، فقد حدثني أحدُ الأصدقاء من الشعراء الموهوبين أنَّ عرّاب الملتقى الذي كان منضمّاً إليه عجوزٌ متصابٍ، كان يبدأ كلّ جلسة من جلسات الملتقى بنصٍّ له، يرجم بحجارته كلَّ من حضر هذه الجلسة، والويلُ لمن يحاول أن ينقد أيَّ كلمة في النص، وكان يقدّم بمزاجيّة مفرطة أصحابه من الشويعرين والشويعرات ويعطيهم بازدواجيةٍ مقيتة ضعْفَ الوقت الذي يُعطى للآخرين، مما دفعه إلى الابتعاد عن هذا الملتقى، وغدا يغرّد خارج سربه، وبات تغريده ممتعاً وجميلاً بعد أن كان مكبلاً بقيود راعي ذاك الملتقى، فكم من شويعرٍ يمتلك مالاً غدا راعي الملتقى وبعض النّقَدَة يسبحون بحمدهم، ويضعونهم في مراتبَ يبزّون فيها السيّابَ ومحمود درويش ونزار قباني، وكم من صاحب موهبة أبعدوه؛ لأنّ موهبته ستكشف الزيف الذي عندهم، وكم من شاعرة حقيقية أبعدوها عن الأضواء؛ لأنها كانت عصيّة عليهم، وكم من شاعرٍ حاول أن يجاري ما يعرض في تلك الدور الثقافية لعله يحظى ببعض ما يناله هؤلاء الشويعرون والشويعرات من اهتمام ففقد لياقته الشعرية.
إنّ هؤلاء الشعراء الخدّج نادراً ما يكتب لهم الاستمرار، وينتهون بانتهاء تلك الدُّور والشلل التي ترعاهم وتحشد لهم جمهور المصفقين، أمّا أصحاب الموهبة الحقيقية فيستمرون، ويثبتون وجودهم في ساحة الشعر الحقّ.
ويبقى الأملُ معقوداً أولاً وآخراً على المتلقّي الذي يتمتع بذائقةٍ عاليةٍ، ويميزُ الغثّ من السّمين، وعلى الناقد الموضوعي الحصيف الذي لا يُداهنُ أحداً، ولا يرضى أن يكون قلماً مأجوراً على حساب الشعر وقيمته وأهميته.
د. عصام الكوسى