دراساتصحيفة البعث

سيذكر التاريخ يوم 6 كانون الثاني 2021

ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد

عن صحيفة اللوموند

سيناريو هوليوودي مشابه لما حدث بالفعل في الكابيتول، مركز الديمقراطية الأمريكية، ورمز مؤسستها، من حوادث اقتحام، وأعمال عنف وتخريب لمنع تصديق مجلسي الكونغرس على انتخاب رئيس جديد بتحريض من رئيس انتهت ولايته، ولا يريد أن يغادر مقعده.

بدت الديمقراطية الأمريكية “هشة” حسب تعبير الرئيس الديمقراطي المنتخب جو بايدن، و لعلّ كلام الرئيس الأسبق جورج بوش الابن هو الأكثر صدقاً مع النفس عبر تاريخه، عندما وصف ما حدث بأنه “يليق بجمهوريات الموز وليس بجمهوريتنا الديمقراطية”، أي أن المجتمع المنقسم يحتاج إلى جهود مضنية لإعادة اللحمة إليه كي لا يتمّ الترحم على “الديمقراطية الأمريكية”. سيسجّل التاريخ أن الديمقراطية الأمريكية تعرّضت للتحدي، وعلقت للحظة، يوم الأربعاء  6 كانون الثاني، من قبل حشد من المؤيدين المتطرفين الذين حرضهم الرئيس نفسه على مسيرة في “الكابيتول هيل” لمنع خصمه الديمقراطي، جو بايدن، من إعلان نفسه الفائز رسمياً في انتخابات 3 تشرين الثاني 2020.

ففي لحظة واحدة تجلّت نزعتان متناقضتان، أولاهما، نعت الديمقراطية الأمريكية التي لم يعد من حقها إعطاء دروس للآخرين، وثانيهما، المبالغة في الادعاء بإثبات قوة المؤسّسة الأمريكية وقدرتها على مواجهة رئيس فقد توازنه عند لحظة ترك السلطة. وفي النزعتين شيء من التلخيص المخل لحقيقة ما يحدث وتداعياته المحتملة التي تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأسره، والذي تابع مصدوماً مشاهد اقتحام الكابيتول. وفي مثل هذه الحوادث المشبعة بالدلالات، والرموز، والرسائل، لا يمكن القفز بالأهواء إلى النتائج الأخيرة. وبالعودة إلى الوراء عندما تمّ ضرب برجي التجارة العالمي في الحادي عشر من أيلول 2001 رمز قوة الإمبراطورية الاقتصادية الامريكية، واقتحام الكابتيول مؤخراً، لهما أثر رمزي واحد من حيث النيل من هيبة الإمبراطورية للولايات المتحدة، حيث بانت شروخ عميقة في المجتمع الأمريكي المنقسم بفداحة عرقياً، وسياسياً، والمأزوم في نظرته لنفسه ومستقبله ودوره في عالم جديد يوشك أن يولد من تحت ضربات الجائحة.

لكن ظاهرة “ترامب” لم تولد من فراغ، ولا هو جملة مقحمة على الحقائق الأمريكية، فقد عبّر بخطابه الشعبوي عن ضيق بالغ في المجتمع الأمريكي من فساد “المؤسسة” التي يرمز “الكابيتول” إليها. إن ما جرى من تخريب وعنف انطوى على كراهية المكان نفسه هو إنعكاس لأفكار، وتصورات، وهواجس قطاعات واسعة من الأمريكيين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض، وأنه وحده صاحب الحق الأصيل في الثروة والسلطة.

إن ما  تعرضت له أمريكا ليس نتيجة أفعال الأعداء ولا الحاقدين ولا المتآمرين ولا المتربصين من الخارج، ولكنها من صنع رئيس أمريكي لا يزال يسكن البيت الأبيض، وأيده أقل قليلاً من نصف الأمريكيين، ولكنه يرفض أن يكون لأمريكا رئيس غيره، وبدأ رحلة التهديد والوعيد قبل الانتخابات، وبعد إعلان النتائج استخدم أسلوب التشكيك مصحوباً بالوعيد، ثم لجأ إلى القضاء أملاً أن يجد فيه من يسانده، وبعد أن جاءت كلمة القضاء على غير هواه، تعلّق بحبال المجمع الانتخابي الذي خيّب أماله، فانتظر ٦ كانون الثاني الجاري يوم تصديق الكونغرس على النتائج، ونجح في استقطاب بعض الأعضاء الذين ذهبوا لمبنى الكابيتول، ولديهم نية تفخيخ الجلسة، وباعتبار أن هذا اليوم هو أمله الوحيد، وأن عدد الأعضاء الجمهوريين الذين وافقوا على السير في دربه لا يكفي لتحقيق الانقلاب الذي ينويه، جاءت دعوته للتظاهر أمام الكونغرس للضغط على الأعضاء، وإجبارهم على تغيير النتيجة، والإبقاء عليه رئيساً.

كما أن يوم السادس من كانون الثاني الجاري سيذكره التاريخ بنفس التوصيف الذي ذكره نائب الرئيس مايك بنس بأنه “يوم أسود”، والذي صبّ عليه ترامب جام غضبه، ونال منه بسبب عدم تفخيخه لجلسة التصديق على نتائج الانتخابات. ورغم أن بنس كان خلال السنوات الأربع الماضية ظلاً لترامب، إلا أنه خلع عنه جلبابه مؤخراً، ولم يتخلَ فقط عن ترامب، بل وقف في وجه جموحه، وعبّر عن استيائه مما حدث، مؤكداً أن في الولايات المتحدة الأمريكية رجالاً يظهرون حرصهم على الدولة ومبادئها السياسية عندما تتعرّض ديمقراطيتها لتهديد، حتى لو كان من أقرب الناس إليهم، فالدول لا بد أن تبقى، والأشخاص مهما كانت مكانتهم إلى زوال. لم يكن بنس وحده صاحب الموقف في ذلك اليوم، ولكن يمكن القول إن الحزب الجمهوري قد انقلب على ترامب، والعديد من أعضائه الذين كانوا يتجهون للتشكيك في النتائج سارعوا بالتصديق على رئاسة بايدن، وقد يكون ذلك غضباً من الفوضى والاقتحام غير المسبوق، لكنه بالتأكيد قفز من سفينة رأوها تغرق، كما قد يكون إنقاذاً لسمعة حزب تقاسم الحكم وشارك في صناعة القرار على مدى نحو قرن ونصف القرن، وأصبح مهدداً بفعل سياسات ترامب والتي اختتمها بواقعة “الأربعاء الأسود”.

محاولات دونالد ترامب لاحتواء الموقف لن تجدي، والمطالبات بمساءلته قانونياً تحوّلت إلى واقع، شأنه في ذلك شأن العديد من رؤساء دول العالم الذين تمت محاكمتهم، أما بالنسبة لعزله من الحكم فقد لا يكون أمراً مهماً لأنه بأفعاله حكم على نفسه بالعزلة السياسية خلال الأيام المتبقية له في البيت الأبيض، وأيّاً كان المصير الذي ينتظره، فإن الشعب الأمريكي والرأي العام العالمي قد حكما عليه فعلياً، والتاريخ لن يغفر له خطيئة السادس من كانون الثاني الحالي.

لقد حصدت الأمة الأمريكية، مؤخراً، ما زرعه رئيسها الشعبوي والديماغوجي والنرجسي على مدى أربع سنوات، وبتواطؤ من الحزب الجمهوري. والمسؤولون الذين وافقوا، في بداية ولايته، على مساعدته في البيت الأبيض من منطلق إحساس الدولة، أو كما يعرفون بـ”الكبار” المشهورين الذين كان يعوّل عليهم لتهدئته، ألقوا أوراقهم الواحد تلو الآخر. إذن هذا اليوم المظلم للولايات المتحدة هو تتويج لرئاسة مضطربة انتهت بتقسيم البلاد إلى قسمين، أحدهما يحترم النظام الدستوري وقرارات المحكمة، والآخر يعيش في عالم موازٍ. هذا العالم، الذي تغذيه نظريات المؤامرة.