قانون بوسمان.. ركيزة العبودية الحديثة في عالم كرة القدم
“البعث الأسبوعية” ـ سامر الخيّر
“عبودية الأجر لا تختلف كثيراً عن عبودية الرقيق”، بهذه العبارة اختصر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي تاريخاً من التعريفات والمعاناة من العبودية بكافة أشكالها، والتي – للأسف – لا يبدو أن لها نهاية قريبة، والمخيف أنها تتأقلم وتتكيف مع تطور الحياة، وتتوسع لتطال كافة مظاهر اهتماماتنا، فلا تفلت منها حتى الرياضة، وبشكل خاص معشوقة الجماهير الأولى، كرة القدم، حيث تعتبر بشكلها وقوانينها الحالية أكير مثال صارخ للعبودية الحديثة (عبودية الأجر أو المال)؛ فالجميع يتداول أخبار اللاعبين، وعلى وجه التحديد سوق الانتقالات والصفقات الكبيرة، وكأننا في سوق نخاسة حقيقي، والفرق هو أن هذا البيع والشراء بتراض وتفاخر وإقرارٍ من ملايين المشجعين عن قصد، أو غير قصد؛ وعند هذه النقطة، يمكننا القول أن كرة القدم تحولت من اللعبة الأكثر إمتاعاً إلى لعبة تسلب إنسانيتنا وترجعنا إلى عصور لم يكن للإنسان فيها أي قيمة.. يباع ويشترى كأي سلعة.
ويختلف الكثيرون حول هذه الظاهرة وسبب ازديادها وخاصة في السنوات العشرين الأخيرة في عالم الساحرة المستديرة، فمنهم من يراها حالة طبيعية لمواكبة الرياضة وتوسع رأس المال للاستفادة المتبادلة. ولكن السبب الحقيقي لدخول عالم المال كرة القدم، من الباب العريض، وتحكمه حالياً بكل مفاصلها، هو ما يعرف بـ “قانون بوسمان”، فكيف سمح هذا القانون بهذه الشراكة؟ وهل كانت هذه الظاهرة لتنتشر لولاه؟ كل هذه الأسئلة وغيرها سنجيب عليها من خلال عرض تفصيلي لهذا القانون وما تبعه من آثار.
بداية القصة
قانون بوسمان نظام يجيز انتقال اللاعبين المنتهية عقودهم “بشكل حر”، ودون موافقة النادي، وكذلك حرية انتقال اللاعب الأوروبي داخل نطاق دول الاتحاد الأوروبي، واعتباره كلاعب محلي؛ وقد بدأت فكرته عندما كان اللاعب البلجيكي جان مارك بوسمان يبحث، في عام 1990، عن نادٍ جديد للانتقال له بعد أن انتهى عقده مع ناديه، لييج البلجيكي، وكان يأمل بالانضمام إلى نادي دنكيرك الفرنسي إلا أن مطالب نادي لييج بالحصول على مقابل مادي للتخلي عنه رغم انتهاء عقده حالت دون إتمام الصفقة.
ومع إصرار النادي البلجيكي على عدم السماح لبوسمان بالرحيل، رفع لاعب خط الوسط قضية استمرت في المحكمة لخمس سنوات، مستعيناً بخدمات المحامي جان لويس دوبون؛ ويمكن القول إن بوسمان نفسه لم يكن يتوقع أن صراعه الطويل للانتقال إلى فريق فرنسي مغمور سيغير تاريخ كرة القدم، كون القضية عرفت فيما بعد باسم “قانون بوسمان”.
قبل وبعد
لوائح الفيفا في ذلك الوقت كانت تنص على ضرورة أن يكون هناك اتفاق بين النادي القديم والجديد للاعب الذي يريد مغادرة ناديه. وفي الواقع، مازالت الانتقالات حالياً تتم بنفس الآلية، لكن في السابق كان يحق للنادي القديم المطالبة بالمال للتخلي عن لاعبه، حتى وإن انتهى عقده، كما كانت تفرض القوانين قيوداً خاصةً على اللاعبين الأجانب. وعلى سبيل المثال، لم يكن بإمكان فريق إنكليزي يلعب في دوري الأبطال أن يشرك أكثر من ثلاثة لاعبين أجانب في المباراة، بالإضافة إلى اثنين على مقاعد البدلاء، وكان يمكن شراء أي عدد من اللاعبين الأجانب لكن لم يكن ممكنًا استدعاء أكثر من خمسة للمباراة الواحدة.
وبالعودة إلى بوسمان الذي تمّ تخفيض أجره، كما أجبر على اللعب مع الفريق الاحتياطي، ومن ثم مع فريق الشباب، فقد توجه لمحكمة العدل الأوروبية، وادعى أنه – كمواطن أوروبي – يجب أن يتمتع بحرية التنقل بين دول الاتحاد للبحث عن عمل، وطالب بتغيير نظام الانتقالات المعتمد في ذلك الوقت ليسمح للاعبين المنتهية عقودهم بالانتقال إلى أندية أخرى، لتقرّ المحكمة، في 15 كانون الأول 1995، حكماً لصالح بوسمان من نقطتين أساسيتين: الأولى أنه لم يعد مسموحاً أن تطلب الأندية مقابلاً مالياً للتخلي عن لاعبيها المنتهية عقودهم، والراغبين بالانتقال إلى نادٍ آخر يتبع لدولة تحت لواء الاتحاد الأوروبي، كما تم منح اللاعبين الحق في التفاوض مع أي ناد قبل ستة أشهر أو أقل على نهاية عقدهم مع ناديهم القديم، والثانية أنه أصبح بإمكان الأندية الأوروبية الاعتماد على عدد لا محدود من اللاعبين المنتمين لدول الاتحاد الأوروبي.
إيجابيات بالجملة
ربما تكون أهم إيجابيات هذا القانون، ظاهرياً، إنهاء شكل من أشكال عبودية اللاعبين، حيث كان اللاعبون يعانون كثيراً من احتكار الأندية لحقوقهم، وتأثير ذلك بشكل سلبي على مسيرتهم. وما مثال بوسمان سوى عيّنة صغيرة عما كانت الأندية قادرة على القيام به، فقد أدى القانون إلى تحول ميزان القوى لصالح اللاعبين أمام الأندية، وأنهى عصر العبودية بشكل نسبي لتعيده تدريجياً صناديق الاستثمار مؤخراً، وبشكل أبشع وأكثر تقييداً، فرواتب اللاعبين شهدت ارتفعاً مخيفاً، وخلال عشرة سنوات ارتفع معدل الرواتب في الدوري الإنكليزي، مثلاً، من 110 آلاف جنيه إسترليني عام 1995، إلى مليونين و300 ألف جنيه إسترليني سنة 2015، وهو أمر راجع إلى تحرر السوق الكروية، فمن يدفع أكثر يحصل على اللاعب الأفضل، وهنا وقعت المزايدات إلى أن بلغنا الرواتب الكبيرة التي نسمع عنها حالياً.
كما ساهم القانون بارتفاع وتيرة الانتقالات في أوروبا، حيث أصبحت خيارات اللاعبين الأوروبيين أكبر بكثير عند اتخاد قرار الانتقال، وأصبح بإمكانهم اللعب في أي دوري أوروبي يريدونه دون أن يتم اعتبارهم كأجانب، وهو ما سرّع وتيرة الانتقالات بين الأندية والدوريات، وحفز تلاقح الثقافات الكروية، فمثلاً بين موسم 1996 (أول موسم عرف تطبيق قانون بوسمان)، وموسم 2006، ارتفع عدد اللاعبين الأجانب في الدوريات الخمسة الأوروبية الكبرى (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وإنكتلرا وألمانيا) من 463 لاعباً إلى 998 لاعباً، أي نحو الضعف تقريباً.
حوّل القانون أندية كرة القدم إلى شركات ربحية، بسبب تحرر السوق الكروية اقتصادياً، وصارت الأندية القوية مادياً قادرة على انتداب أفضل اللاعبين والتطور رياضياً، وهذا كان في صالح الدوريات القوية مادياً قبل إصدار القانون، فلمسنا تفوقاً كبيراً للأندية الإنكليزية والإسبانية مباشرة بعد خروج القانون إلى النور.
وارتفعت حقوق النقل والإعلانات وحقوق الرعاية، واستقطبت كرة القدم الأوروبية المستثمرين من كل أصقاع الأرض، وعلمت القنوات التلفزيونية أن اكتساب حقوق دوري من الدوريات الكبرى سيدر عليها ملايين اليوروهات، سواءً من المستثمرين أو من المتتبعين الذين أصبحوا يدفعون حقوق اشتراك سنوية، وطبعاً ازدادت أرباح الأندية، وأصبحت هذه الحقوق من أهم مواردها؛ وقد أعطانا توقف النشاط الرياضي بسبب تفشي جائحة كورونا فكرة واضحة عن أهمية هذه الحقوق بسبب ما تكبدته الأندية من خسائر.
سلبيات عميقة
من جهة أخرى، ارتفعت ديون كثير من الأندية مع ارتفاع قيمة الصفقات والرواتب التي طالب بها اللاعبون، وخاصة الأندية المتوسطة الدخل، وكل ذلك بسبب محاولة الحفاظ على أفضل لاعبيها وضمان التنافسية الرياضية. فقد عمدت البنوك إلى تقديم قروض كبيرة لأندية كرة القدم، نجا منها من يملك ضمانات كافية، ووقع في فخها بعض الأندية المتوسطة التي حاولت المضي قدماً مستغلة النظام المالي الجديد، وأفضل مثالين على ذلك ناديا لاتسيو الإيطالي الذي أفلس، ونادي فالنسيا الإسباني الذي كان قاب قوسين أو أدنى من إشهار إفلاسه.
كما أثر القانون سلباً على اللاعبين المحليين، فالأندية كانت مجبرة على الاعتماد عليهم كونها لم تكن قادرة على استقطاب سوى عدد قليل من اللاعبين الذين لا يحملون جنسية البلد الذي تمثله.. وقتها، كانت المواهب الصاعدة من مدارس التأهيل تحصل على فرصتها الكاملة، وهو أمر لم يعد ممكناً مع حصول الفرق على إمكانية التعاقد مع أفضل اللاعبين من مختلف الجنسيات الأوروبية؛ وخير مثال على ذلك نادي الإنتر الإيطالي الذي كان في وقت من الأوقات لا يضم في تشكيله الأساسية أي لاعب إيطالي، والأمر نفسه ينطبق على تشيلسي الانكليزي، وقبل ذلك على ريال مدريد الاسباني، وهذا بدوره أدى إلى انعدام التنافسية في كثير من الدوريات الأوروبية، حيث ينحصر تواجد 24 من أصل أفضل 40 لاعباً في العالم في ثلاثة أندية فقط، هي ريال مدريد وبرشلونة وبايرن ميونيخ.
أشهر الصفقات
يعتبر انتقال اللاعب الهولندي إدغار دافيدز من نادي أياكس الهولندي إلى ميلان الإيطالي أول عملية انتقال بعد إقرار الحكم بقضية بوسمان، وقد حدثت بعد عامٍ على إقراره. وانتقل أيضاً في وقتها الإيطالي جانلوكا فيالي من يوفنتوس الإيطالي إلى تشلسي الإنكليزي، وستيف ماكمانمان من ليفربول الإنكليزي إلى ريال مدريد الإسباني عام 1999، وسول كامبل من توتنهام إلى أرسنال داخل إنكلترا عام 2001، في واحدة من أبرز الصفقات التي تمت قبل انتهاء عقد اللاعب مع ناديه، بل من دون علمه حتّى، وجاي جاي أوكوشا من باري سان جيرمان إلى بولتون عام 2002، وإستيبان كامبياسو من ريال مدريد إلى إنتر عام 2004، وانتقل الألماني مايكل بالاك من بايرن ميونخ إلى تشيلسي الإنكليزي، كما رحل ديفيد بيكهام عن ريال مدريد الإسباني إلى لوس أنجلوس غالاكسي الأمريكي عام 2007، وماتيو فلاميني من أرسنال إلى ميلان 2008.
خلاصة القول
فتح بوسمان باباً جدلياً في عالم كرة القدم، وخلق تأثيراً مستداماً على الأندية واللعبة والمالكين واللاعبين أنفسهم، فهو سلم السلطة للاعب، كما يقول السير أليكس فيرغسون، المدرب السابق لمانشستر يونايتد، لذلك على الفيفا أن تقوم بمراجعة قانون بوسمان وتعديله، لأنه أعطى للاعبين الفرصة لإعلان عصيانهم، مع أن أهم ما يميز الرياضي هو الانضباط!!