الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بناة الجمال المشتهى!

حسن حميد

أعترف، بأن فرحة ترجّ القلب تأخذني بعيداً، وأنا أرى احتفالات تقام هنا وهناك من أجل إحياء ذكر الأدباء والكتّـاب والعلماء وأهل الرأي والفنانين الذين لم يغادروا الحياة إلا وقد نقشوا أسماءهم على يد الزمن حضوراً، ومكانةً، وتأثيراً، وذلك تقديراً وتأييداً لما أنجزوه، وما سعوا إلى تثبيته ليقرَّ بين الناس مثالاً للنباهة والإبداع والرؤى العلوق بالمعاني النبيلة.

في روسيا يحتفلون ببوشكين (1799 ـ 1837) الذي لم يعش سوى ثمانية وثلاثين عاماً، كتب خلالها الرواية، والقصة، والقصيدة، والمسرحية، والنقد الأدبي، مع أن حياته كانت ملأى بالمشكلات والمواجهات والمطاردات والسفر، لكن كتابته التي لا شبيه لها سوى الينابيع صفاءً ورواءً حجزت له الأمكنة العالية لسعة موهبته، وعظيم إبداعه، وقدرته الفذة التي جعلت نصوصه مرايا للشعب الروسي، إنهم يحتفلون به في عيد ميلاده، وفي ذكرى زواجه، وفي يوم رحيله مغدوراً بطلقة أصابت منه مقتلاً في مبارزة لا يجيدها الشعراء والأدباء والفنانون وأهل الرأي، لا بل توّجوه أباً للأدب الروسي، حتى باتت معرفة أدب بوشكين تقليداً رئيساً من تقاليد الحياة الروسية، والاحتفال بذكراه غدا طقساً شعبياً تعيشه المناطق الجغرافية التي عرفها بوشكين مضطراً خلال تنقلاته القسرية لأن صوته، كما وصفه أهل السياسة آنذاك، كان عالياً بل صخّاباًً، لا بل إن الدوائر الثقافية، على اختلاف مستوياتها وتشكيلاتها، تحتفل بذكراه المصحوبة بطباعة أعماله طبعات شعبية توزّع مجاناً على دور الثقافة، والمدارس، والمؤسسات الثقافية، أما الجامعات الروسية فهي ما زالت إلى هذه الساعة، وستبقى تحتفل بـ بوشكين من خلال الندوات والمؤتمرات التي تعقد حول كتاباته المتعددة، ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تكتب استلهاماً من إبداعه، ومقارنةً مع الآداب العالمية الأخرى.

والحال هي كذلك لدى الألمان الذين يحتفلون بـ غوته (1749 ـ 1832) وبأوقات مشدودة إلى ميلاده، وصدور مؤلفاته، ومغادرته لهذه الدنيا، تقديراً منهم لأديب دار حول الإنسان دورة الدراويش الباحثين عن المعنى، ليقول إن الإنسان هو القيمة الأثمن في هذه الحياة، وأن الحياة ليست بحياة من دون الإنسان السعيد، والحياة ليست بحياة إن كانت مقيدة بالأنانية، والزيف، والتملق، والغرور، غوته الذي عدّت روايته (فاوست) الكتاب الأهم من بين أربعة كتب ألفها البشر (ألف ليلة وليلة، دونكيشوت، والكوميديا الإلهية)، والذي هو اليوم، وبفضل تقدير الألمان له، أحد أهم أعمدة الآداب العالمية.

أقول هذا عن بوشكين وغوته، وأمثالهما كثير، كي أشير إلى أن لدينا أدباء وفنانين ومفكرين قاموا بالدور الذي قام به بوشكين وغوته، وبالكفاءة نفسها، لكن للأسف لا تلاقي ذكراهم، وقد غادروا هذه الحياة بعد إبداع طويل مضنٍ، ما تستحق من احتفال وتكريم واستعادة للجماليات والمواقف التي أبدوها خلال حياتهم، لا بل إن كتاباتهم الوازنة لا تلاقي من يهتم بها ليعيد إليها الألق عبر طبعات جديدة لتتعرف الأجيال الطالعة صنيعهم الفذ الذي أنجزوه من أجل البلاد، والأدب، والفنون، والفكر، والقيم النبيلة التي تريد للإنسان أن يكون هو جوهرة الحياة وتاجها، مؤلفات هؤلاء وإبداعاتهم غير متداولة بين أيدي الكتّـاب والمثقفين، لا بل هي غير موجودة في المكتبات والمراكز الثقافية، ودوائر الجامعة التي هي مراكز بحث، فهل نلتفت إلى هؤلاء الكرام التفاتة التقدير والثناء بوصفهم آباء روحيين، وعشاقاً للأدب والإبداع والحياة والإنسان، وبناة للجمال المشتهى الذي ينادد جمال الأدب والفن في الثقافات العالمية الأخرى؟!.

Hasanhamid55@ yahoo.com