طقوس الحنين.. “ومآذن كالأنوال تنسج لنا السكينة وأسواق المدينة”!
“البعث الأسبوعية” ــ جُمان بركات
لكل عصفور يفارق عش الولادة والزقزقة الأولى، والدفء تحت جناح الأم، حكاياته مع الحنين، حين يخفق أولى خفقاته ويطير مبتعداً عن الحبل السري الذي يربطه بذاك العش، ولكن للسوريين تعلقاً أزليّاً وأبديّاً منقطع النظير بتلك الأرض التي ربتهم وشدّت على أياديهم في خطواتهم الأولى وعثراتهم، والتي ومع كل سقطة تقول لهم: سلامات يا ولدي!
وللمبدعين في مجال الأدب والفن طقوس خاصة من التعلق بالوطن سورية، وطينه ومائه وهوائه، ولتعابيرهم عن هذا الحنين أكثر من حرف ولون وهمسة.. رحلة في الوجدان بين تلافيف الحنين مع خفقات أجنحة مبدعين سوريين شباب قذفتهم أمواج الغربة على شطآن بعيدة، فكان الولاء والتعلق خير محفز لإبداع مميز وبهي وجميل.. وحلم العودة للعش مع أسراب الطيور البهية الملونة ككل ربيع تتفتح فيه أزاهير الروح.
الحنين إلى دمشق
شاءت الأقدار وأرغمت الفنانة التشكيلية رندة حجازي على الرحيل، ورغم ذلك يبقى شعور الانتماء للماضي بكامل تفاصيله يسكن وجدان كل مغترب.. تقول: ما زالت دمشق تسكنني، فدمشق أعطتني كل ما أملك، ولي الفخر والامتنان لها كوني ابنة هذه الحضارة.. عشقي وانتمائي لوطني وأهلي وزملائي باق، وما يجري في سورية عبارة عن تعذيب روح كل فنان سوري يعشق بلده، ولكن في النهاية هذا هو واقعنا المرير الذي لا مفر ولا مهرب منه، وعلينا مواجهته بشتى الوسائل الممكنة. وكل منا من موقعه ومكانه وعمله يدافع عن بلده، وأنا على يقين أنني كسورية أستطيع أن أقدّم للعالم صورة جيدة، لا بل ممتازة، عن بلد الحضارة، وسأعمل جاهدة لهذا الهدف. وتواجدي في الخارج (كندا) يعتبر عاملاً مهماً للانتشار والمساهمة بنشر هذه الرسالة من أجل سوريتي، قبل أن يكون من أجلي على الصعيد الشخصي. وربّما كان هذا التوقيت بالذّات هو أنسب توقيت لرفع صرخة الألم خارج حدود الوطن. إضافة إلى أنني حريصة كل الحرص على أن أبقى قريبة جداً من زملائي السوريين، ومتابعة أعمالهم بكل شغف ومحبة، وأفرح لأي نجاح كبير كان أم صغيراً، فنجاح أي فنان سوري هو نجاح سوري بالمجمل.
عيش التفاصيل
التواجد في مكان بعيد عن الوطن يجعل الإنسان يشعر بقلق غير مفهوم.. عن هذه الحالة عبرت العازفة رهف شيخاني قائلة: عندما كنت أدرس في بولونيا، ثم إيطاليا، كانت دمشق مكاناً خطراً بسبب القذائف والخطف وقصص كثيرة نسمعها، لكن الغريب هو أني حين كنت آتي للزيارة، وأصل إلى بيتي.. حينها فقط كنت أتنفس الصعداء وكأني في هذه اللحظة أصبحت بمأمن. الابتعاد عن المكان الذي نشأ فيه الإنسان يجعله ينسى كل السلبيات ويتذكر كل اللحظات الجميلة: من بعض الخطوات في المدينة القديمة، إلى رائحة الفطائر، إلى أصوات الناس في السوق، وحتى إلى الفوضى في قيادة السيارة.. يتذكرها بحنين وحلم بالعودة لعيش تلك التفاصيل. بالنسبة لي، هذا الحنين حفز لدي الشعور بأني يجب أن أعود لأقوم بتغيير ولو بسيط، على مستوى الدائرة الصغيرة من حولي؛ وهنا بدأت أفكر بمشاريع فنية وثقافية وتربوية ترفع الوعي وخاصة لدى الجيل الجديد.. فكرت بمشاريع ما كانت من أولوياتي، كالتدريس مثلاًـ، وبدأت بها، لأنني شعرت بضرورة نقل المعلومات الغزيرة التي حصلت عليها، والخبرة التي بنيتها خلال سفري، إلى الجيل القادم، وهذه المشاريع الكثيرة تحتم عليّ العمل والتعب المتواصلين، لكن على أمل رؤية نتيجة البذرة التي أحاول غرسها.
الحلم
“.. وتبقى دمشق مدينة الجمال”.. يعيش الرسام ومخرج الرسوم المتحركة علي إبراهيم في مدينة غريبة عن منبته وأهله، بعيداً عن مرابع طفولته. عن الحنين إلى الماضي، قال: في هذه المدينة حيث الجمال الذي يشعر أبناء هذا البلد بالفخر والانتماء، ويشعرني بالغيرة، لايحق لي كغريب أن أتبنى ما أُنجز هنا من تاريخ، ولا أن أحلم أني لو زرعت شجرة سأقطف ثمارها.. حين أنظر في عيون قطة مدللة ومترفة في الطريق تموء في رأسي عشرات القطط الطائشة اللعوب والجائعة في حارتي التي غادرتها، وحين أرى أبراجاً تعلو في البنيان هنا تتساقط في صدري آلاف البيوت الطينية ذات النمط المعماري الفني الجميل في هندستها الفطرية.. ليس بوسعي أن أنظر بحيادية دون أن أقارن ما أراه بما أحمله في عيوني، أفكك نفسي لأعيد تركيبها بما يتلاءم مع الحاضر.. الأيام لا تنتظر حتى نتعوّد، العمر هو فرصتنا الوحيدة في الحياة، لا شيء يعود للوراء إلا الحنين الذي يعاكس الزمن ليقول: “عد واحمل جذورك”، وأبقى عالقاً هنا، إلى أن يتدخل الفن ليقدم لي حلاً، فيضع حنيني أمامي ويسميه حلماً! الآن صار بوسعي أن أحاول اللحاق بالمستقبل مجدداً، محاولاً قول كلمة أو ترك أثر، ليكون الفن نافذة نحو السلام أداته الحلم.
طنجرة أمي
يظن الشاعر مهند العاقوص أنه من روح وطين.. وعن الحنين إلى الماضي، قال: كنت مشتبهاً إلى حين، أظنني كائناً من روح وطين، لكنني – إذ فرقتني الريح – أكتشف أنني كأس من حنين يذرف فوق أرض من عجين الاحتمالات.. تبقى طنجرة أمي مفتوحة على الذاكرة، توقظ الشوق لبخار طبق طهي على دفء المحبة.. كالموسيقى تنمو حارتنا القديمة فتصير ناياً، إن في ثقوبها المتجاورة حمامات جارات، ومآذن كالأنوال تنسج لنا السكينة، وأسواق المدينة.. أحياناً يتراءى لي أن في القلم جفاف، لكنني ما إن أرجّ الذاكرة حتى تتدفق الكلمات كأراجيح العيد.. إن من الشام تولد الأناشيد، يدور رأسي على محيط الدائرة، ويبقى قلبي ملتصقاً بالمركز، ومع أنني لست ضليعاً بالهندسة، لكنها الشام ترمي على قلبي سهراتها المؤنسة.. أذكر كل حارات الشام، أمشيها كبائع جوال صغير، وإذا سألوني: ألا تخشى أن تضيع؟! أبتسم للجميع دون إجابة، وأكتمها في قلبي كلؤلؤة: “لا يضيع المرء بين قمح وحمام، لا يتوه العطر في سوق لا ينام، بل يصلي كجيش الحنين إذا صاح الإمام: حي على الشآم”.
الأم والحب
وتشاركت الفنانة التشكيلية سنا الأتاسي مع كاتب الأطفال مهند العاقوص برائحة الطبخ مع أمها، حين طُلب منها البوح وجدانياً عن الحنين، وكيف كان أثره على لوحتها التي ترسمها.. أجابت: حارت بي الكلمات، وصمتُ للحظات، وعادت ذاكرتي لسنوات طويلة مضت من عمري.. عدت إلى ذلك البيت الدافئ حيث كانت دفاتر الرسم والألوان الخشبية الرخيصة موجودة ومبعثرة في كل مكان.. تذكرت ذلك الركن الذي كان يجالسه أبي دائماً أمام التلفاز، وأصوات الطناجر في المطبخ، ورائحة الطهي الطيبة حيث أمي تحتفل دائماً بوجبة غدائنا.. عادت الذاكرة للحظات لم أكن أتوقع أن أفقدها يوماً: عائلتي التي كان يجمعنا بيت كبير في قلب مدينتي حمص، القلب النابض في وطني، لم يعد هناك شيء سوى بقايا صور أحتفظ بها، وأقفل عليها في ذاكرتي بإحكام.. عندما عدت لزيارة مديني بعد ثمانية أعوام وجدت ملامح الذكريات تتلاشى، وبقي منزل عائلتي القديم شامخاً رغم كل الدمار الذي يخيم على مدينة الحب، لكنه مجرد جدران خالية.. كنت أهرب من وحشية الكون إلى مرسمي، في كل لون سال على لوحتي كانت هناك حكايتي، حكاية أجساد تنطحن تحت هذا الدمار، حكاية امرأة كانت رمزاً للحب، والأم التي هي أختي الكبيرة، في لوحاتي رسمت وجهي بعينيها فقد كانت عيناها مرآة الروح والألم والحب.. أحياناً لا يمكنني أن أغوص كثيراً في ذاكرتي لأنني أخاف من أن أجد نفسي ميتة هنا، لا أريد أن تكون لوحتي مجرد لوحة، بل أريدها أن تتكلم حكاياتي، أريد أن أغوص في عمق كل إنسان، أريد أن يعود الحب في داخلنا ليحيا من جديد.