التروبادور.. أم” دُور الطّرب الأندلسية؟
“البعث الأسبوعية” ــ أوس أحمد أسعد
أُطلقَ مصطلح التروبادور على ذاك النّوع الشعري الغنائي المكتوب باللّغة العاميّة البروفانسيّة المنتشرة في منطقة الجنوب الفرنسي. وقد ساد بين نهاية القرن الحادي عشر وبداية القرن الرابع عشر الميلادي. ومعناه الحرفي “وجد أو ابتكر”. أمّا مضامينه فمدحيّة وهجائيّة وغزليّة يتم تناقلها بين قصور النبلاء. ويبدو التأثّر فيه واضحاً بالشعر العربي الأندلسي “الموشّحات والزّجل” مع اختلاف في التعاطي مع الموسيقى. ويؤكّد بعض الباحثين الغربيين والعرب بأنّ التروبادور، كلمة وأداء، تنبع من الموسيقى الأندلسيّة العربية. فمفردة الطّرب أيّ الغناء، هي أصل تروبادور. حيث الكلّمة هي مقلوب عبارة “دُور الطرب” العربيّة، وبما أنّ الصّفة تتقدّم على الموصوف في اللغات الأجنبيّة عموماً، فقد غدا مصطلح “تروبا دور” هو الدّارج. ويلتقي الكاتب العراقي عبد الواحد لؤلؤة في دراسته المعنونة بـ “دور العرب في تطوّر الشعر الأوروبي” مع هذا التصّور، إذ يقول: إنّ شعر التروبادور هو نسخة مبتكرة من الموشّحات والأزجال الأندلسيّة، فقد عاش شعراءُ التروبادور في مناطق متاخمة للأندلس، ومن الطبيعي أن يتأثرَ نظمهم للشعر بما سمعوه وتأثّروا به من الموشّحات والأزجال العربيّة المعاصرة لهم هناك. وهذا ما رآه لؤلؤة من خلال بحثه في نتاجات أوائل شعراء التروبادور كـ غليوم التاسع، مثلاً، دوق منطقة بواتييه (بلاط الشهداء) الذي عاش بين 1071 و1127 للميلاد، فمن خلال تحليله العروضي واللّغوي لأشعاره، وأشعار غيره وجد بأنّ “الشكل والمضمون في الشعر الأوروبي الحديث قد جاءا عن طريق الشعر العربي في الأندلس..”. وكذلك إذا نظرنا إلى الأزجال التي كتبها ابن قزمان، أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وأشعار التروبادور، نجد أنّهما صِيغَا بالأوزان نفسها. وهناك من يقول بأنّ نمط شعر التروبادور قد ظهر لدى شعراء الأندلس قبل ظهور التربادوريّين بقرون، فأوّل من نظم هذا النوع هو أمير العرب في منطقة ألبيرَه، في الأندلس، الشاعر سعيد بن جودي الذي ما إن دخل مدينة قرطبة، واقترب من قصر الأمير محمد بن عبد الرحمن، حتى سمع جارية جميلة تغنّي لابنه – اسمها جيحان – فعشقها من صوتها، وقال بها شعراً كثيراً، مثل:
سمعي أبى أن يكون الروحُ في بدني/ فاعتاض قلبي منه لوعة الحَزَن
أعطيتُ جيحانَ روحي عن تذكّرهــــــــا/ هـــــــــــــــــــذا ولم أرها يوماً ولم ترني
كأنّني واسمَهـــــــــا والدمـــــــعَ منســـــــــكـبٌ/ من مقلتي راهبٍ صلّى إلى وثن
كما يبدو تأثير الموشّحات الأندلسيّة وقصائد الزّجل العربية واضحاً في شعر التروبادور، من خلال حفلات كانت تُقام أشبه بالسّجال الهجائي الموجود في الزجل، والاعتماد على الغناء لتقديم القصائد، مصحوباً بمرافقة آلة موسيقيّة وتريّة. يقول الباحث الموسيقي الفرنسي ميشيل فيهرر: “ابتكر شعراء التروبادور طريقتهم وأسلوبهم لبلوغ منتهى الحبّ الفروسي مازجين بين مفهوم الحبّ الفروسي الذي عرفه فرسان بريتانيا الفرنسيّة. وتميّز به الأرستقراطيّون آنذاك، والحبّ الصّوفي الذي عرفه الشعراء العرب الذين عاشوا في الأندلس”.
ويقول المؤرّخ الفرنسي هنري مارو: “إنّ التأثير العربي على حضارة الشعوب الرومانيّة لم يقف فقط عند حدّ الفنون الجميلة التي كان التأثّر فيها واضحاً، وإنّما امتدّ كذلك إلى الموسيقى والشّعر”. وقد كان من ضمن شعراء التروبادور الغزليين أربعةُ ملوك هم: ريتشارد الأوّل، وفريدريك الثاني، والفونسو الثاني، وبدرو الثالث؛ وقد ظلّ تأثيرهم قرناً من الزمن، بين 1150 و1250 للميلاد. وها نحنُ سنتلو مقطعاً شعريّاً تروبادوريّاً للتّدليل على ما قلناه:
“في حديقة ينشرُ فيها الشوكُ الأبيض أوراقَه، كانت سيّدتي يضطّجع حبيبُها بجوارها
حتى نادى الرقيب بطلوع الفجر.. ويلاه الفجر الذي يحزن المحبّين
ربّاه ربّاه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً! أتوسّل إليك أيها الربُ ألا ينقضي الليل، الليل الحبيب
وألّا يبتعد عنّي حبيبي، وألّا ينادي الرقيب الفجر.. الفجر الذي يقضي على السلام
رباه رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً! صديقتي الجميلة الحلوة، أنيليني شفتيك
هاهي ذي الطيور في المراعي تشدو، فليكن نصيَبنا الحبُّ ونصيبَ الحسودِ الألمُ!
رباه رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً! مِن تلك الريح الحلوة التي تقبل من بعيد
شربتُ حتى ارتويتُ من أنفاس الحبيب، نعم، من أنفاس حبيبي المرح العزيز!
رباه رباه ، ما بال الفجر يقبل مسرعاً! ..”.
والغريب أنّه في الوقت الذي كان متوقّعاً فيه نشوء أدب أوروبي مصطبغ بالحماسة الدينية، نتيجة الحروب الصليبيّة نهاية القرن الثالث عشر، نشأت هذه الظاهرة التروبادوريّة كمدرسة شعريّة غنائيّة أرستقراطيّة وثنيّة غلب عليها الطابع العربي، وبشّرتْ بانتصار المرأة على قيودها المعروفة بأسطورة هبوط آدم من الجنّة. ثم انتقل الأمر إلى باريس فلندن، ثم ألمانيا، ما مهّد السبيل لظهور الشاعر الكبير دانتي الذي اعتُبرَ إلى جانب بترارك من ورثة شعراء التروبادور، بما خلفاه من تقاليد الشّهامة والمرح، إذْ ساعدا على صياغة دستور الفروسيّة وتحويل سكّان جنوب أوروبا الهمج إلى مهذّبين. وقد تغنّى شعراء التروبادور بأشعارهم العاطفية المتغزلة برقة وعذريّة المرأة المحبوبة، وأكدوا على الاستعداد للتضحية في سبيلها حتى الموت، من أجل لفتة أو نظرة أو منديل ذكرى. وبفضلهم تحوّل مفهوم العشق إلى جمال وسعادة أو شقاء يمكن التّفاخر به، وهو ما كانت تعتبره أوروبا المسيحيّة مرضاً خطيراً يُنفر منه، لذلك اجتهد أطباؤها للقضاء على ورمه الخبيث.
وما ميّز الشّعراء التروبادور هو التزامهم بالقافية الشعريّة التي لم تكن معروفة من قبل في أوروبا. وبفضلهم غدا الشّاعر معروفاً بين الناس، بعد أن كان كائناً أسطوريّاً تتناقله الأجيال، كشأن شعراء الرومان والإغريق. ولطالما تجوّل الشعراء التروبادور كفرسان نبلاء جنوب فرنسا وشمال إسبانيا في القرون الوسطى، وخلقوا ثورة ثقافية كبرى في أوروبا القرون الوسطى، من خلال الشكل الجديد الذي أوجدوه، وهو “الحبّ الفروسي”، إذْ لا حبّ فروسياً من دون شعر، كما رسّخوا معادلة ثلاثيّة هي: الحب والشعر والفروسيّة. فشكّلوا بذلك حالة أدبيّة شعريّة متمرّدة على الّلغة الأم “اللّاتينيّة” المقدّسة، لغة الدين والأدب في أوروبا القرون الوسطى، فكلّما كانت تكثرْ العوائق لوصول المحبّ إلى محبوبته، المتمثّلة بـ “الأب، الزّوج، تعاليم المجتمع، عفّة المرأة الصّارمة”، وغير ذلك من العوائق، كلّما زاد الحبّ اضطّراماً وتأجّجاً في نفس الشّاعر. وبهذا المعنى يقترب الشعر التروبادوري من ظاهرة الشّعر العربي العذري برموزه المعروفة: قيس بن الملوح، وجميل بثينة، وكثيّر عزّة، وغيرهم.