إشـكـالـيـة الـمـبـدع والـرقـابـة
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
مع أن المبدع يمثل جزءاً من هذا المجتمع، إلا أنه يجد نفسه يعيش غربة دائمة معه، إذ يصبح له عالمه الخاص به، ويرى الأمور بطريقة تختلف عن الآخرين، وهذه القطيعة تؤدي إلى قطيعة في الحوار والفكر، وبشعور مرير بالغربة المجتمعية، فمدينة لها قوانينها التي لا يمكنه الانسجام معها تؤدي لهذه الغربة.. لذلك، ومن خلال فعل المقاومة، نرى إشكالية المبدع والسلطة قائمة عبر العصور، هذه الإشكالية تتجلى فيها الرقابة سيف السلطة المسلط على الإبداع، ولكن هل من مساحة تشغلها الرقابة في ذهن الكاتب أثناء الكتابة؟ أم أنه يعطي لنفسه هامشاً مفتوحاً للكتابة بعيداً عن الرقابة وإشكالاتها؟!
إذا بحثنا عن أجوبة هذه الأسئلة في إبداع الأدباء الذين تعرفنا إلى نتاجهم الأدبي، فإننا نرى علاقتهم متباينة مع الرقابة، فمنهم من يضمّن كتابته جرعة عالية من الجرأة في طرح الموضوعات، وبشكل خاص في توصيفه لعلاقة المثقف بالسلطة، حيث نقرأ إصراره على بناء شخصياته من شريحة المثقفين الذين ينتمي إليهم، ما يجعله يتحرك بينهم بمعرفة وحرية أكبر، دون التقول عليهم بأي سلبية. وهنا، هؤلاء المثقفون مطالبون بأن تكون لهم روايتهم الناقدة من دافع إيمانهم بالثقافة كعملية تساهم في التغيير، لأن الثقافة ليست للوجاهة – ولو أنها للأسف الوجه الذي يستثمر أكثر من غيره – أما الخطوط الحمراء فلا نراها تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الكاتب، وليس ثمة مشكلة معها؛ وربما يعود السبب إلى أنها متبدلة ولا معايير واضحة لها، وتختلف من رقيب لآخر، في حين يعيش بعض الأدباء تحت تأثير الرقيب الداخلي الذي يعتبرونه الأشد رسوخاً وإقلاقاً، فهو يمثل لهم ذواتهم بكل مخاوفها وضعفها وعجزها.
أيضاً، هناك من الكتاب من يطرحون أفكارهم بجرأة مدروسة ولا يقدمونها اعتباطياً، إذ أن مجتمعنا يعاني من قيود وإشراطات تحجم أفكار وسلوك المرأة والرجل على حد سواء، وتعيق تفتح الوعي لديهما، ومهمة الكاتب أن يكون جريئاً بتحريض الإنسان على كسر هذه القيود بجرأة ووعي أكبر، ويؤكدون على الحرية في الكتابة بعيداً عن الضوابط النفسية والاجتماعية والدينية التي قد تكون عائقاً أمامهم، بل يعملون على توظيف هذه الضوابط بالعمل على قضية التفتح الفكري، وتفتح النفس، وهذا كاف – برأيهم – لأن يعرف الإنسان ماذا يفعل، وكيف يتجه، لأنهم يكونون قد أعطوه المفتاح ليحدد ماذا يريد من الحياة.
ومن وجهة نظر أخرى، هناك من الكتّاب من يقول أنه، في عالمنا العربي، كل كاتب غير قادر أن يكون ذاته تماماً، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه، لكن مهمة الكتابة أن تخلق طريق الخلاص ويصبح لدى الكاتب ابتكارات يستطيع أن يمرر أفكاراً يتحايل فيها على الرقيب؛ ورغم التوجس الذي كان يرافقهم أثناء الكتابة إلا أن شغفهم بها يجعلهم يتحدون الخوف القابع في أعماقهم، وينطلقون بحرية يطوون المسافات والأزمنة، ويطلقون ما يشاؤون من آراء على الورق، ولو أنهم في الحياة يصطدمون بالقيود والممنوعات التي يفرضها عليهم المجتمع، ويدركون أن العيش لا يقتصر على الورق، فالواقع ليس طليقاً، والكاتب لا يستطيع أن يكتب كما يشاء، لأن الخارج يقيد الداخل.. والأمر ليس سهلاً، لكن ما توفره لهم الكتابة هو أنهم عندما يغادرون الورق ويعيشون الواقع يرون أنفسهم أكثر قدرة على مواجهة الواقع، ويشعرون بأنهم أحرار في داخلهم، ويعتبرون أن ضميرهم هو الرقيب الأهم بالنسبة لهم على ما ينتجون، انطلاقاً من إيمانهم بتأثير الكلمة التي لابد أنهم يعرفون أين مؤداها، وبالتالي يجب أن تكون هذه الكلمة في محلها تماماً، أو يجب أن لا تكون في موقع يؤثر تأثيراً سلبياً أو مبتذلاً، خاصة وأنهم ينظرون للكتابة كحالة تساعدهم على الحياة وتخفف من وحدتهم، فيعيشونها بعمق أكثر، وهذه التفاصيل بما تحمله من بساطة وعفوية لا تسبب لهم إشكالية لا مع الرقيب ولا مع المتلقي.