مجلة البعث الأسبوعية

بازلت حوران.. قصة الحجارة السوداء والعمارة الجميلة

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد العمار

ليس المقصود بحوران محافظة درعا، كما قد يعتقد البعض، بل هي، كما يعرفها ياقوت الحموي في مؤلفه الشهير “معجم البلدان” تلك المنطقة الممتدة من أطلال دمشق شمالاً، حتى عجلون في الأردن جنوباً، ومن شرق فلسطين غرباً، حتى الحماد شرقاً، وتمتاز بكثير من القواسم المشتركة، بيد أن أكثرها أهمية التربة البركانية وصخر البازلت الاندفاعي المعروف بلونه الأسود اللون، أو الرمادي الداكن، أو الأخضر الداكن، أو البني، لذا فإن من بين المعاني الكثيرة لكلمة حوران “البلاد السوداء”!

البازلت صخر ناري طفحي، عُرف باليونانية، وأخذ من إقليم باسان (أو “باشان” في بلاد الشام “حوران اليوم وتضم السهل والجبل والجولان”)، المكون من هضاب وجبال من الصخور النارية المنصهرة الصاعدة من أعماق تتراوح بين 10 – 100 كم تحت سطح الأرض، على هيئة ححم ذائبة تتجمد عند سطح الأرض عندما يبردها الهواء، مكوّنةً براكين مخروطية شكلت هضبة حوران البركانية.

بالرغم من قساوة البازلت، إلا أن سكان المنطقة برعوا في نحت هذه الحجارة وتشكيلها، على نحو فريد وجميل، بدليل تلك البيوت المبنية من حجارة منحوتة بشكل مستو ومتجانس، كما لو أنها صنعت بآلات القص والمخارط التي نعرفها اليوم؛ والشيء ذاته بالنسبة لتلك الأعمدة الأسطوانية، التي تحافظ على دقتها واستدارتها، مهما ارتفعت، فضلاً عن تزيينها بالتيجان التي تمثل أشكالاً هندسية ووروداً وأزهاراً على نحو بديع.

أكثر ما يلفت الانتباه في البيت البازلتي جمالية القناطر والأقواس المحسوبة بطريقة هندسية دقيقة، ولهذه الأخيرة وظيفة مهمة، فهي تحمل الجسور الحجرية العرضانية، التي سيرتكز عليها السقف على طريقة “حامل ومحمول”؛ وتصل سماكة السقف إلى المتر في بعض الأحيان، لأن الحجارة ترصف فوق الجسور والقناطر، ثم يفرش التراب بسماكة لا تقل عن 40 سم، وكان يرص بشكل قوي، حيث يدحل بمداحل حجرية صُممت لهذا الغرض، بداية كل شتاء، لمنع تسرب مياه الأمطار، ثم تتحول الأسطح في الربيع إلى مرج يشبه، إلى حد بعيد، أرض الملاعب الرياضية، كما كنا في طفولتنا نقطف البابونج منها!

لم يتوقف بناء البازلت عند المباني السكنية، بل امتد ليشمل المؤسسات الحكومية والمدارس والمساجد، ومحطة قطار الخط الحديدي الحجازي، أقدم خطوط الحديد التي عرفتها المنطقة، وحمته صلابته من عوامل البيئة وتقلبات الطقس، فالمباني ومكاتب المحطة، وغيرها، ما زالت تحافظ على شكلها وجماليتها.

وتفوق تكاليف بناء بيت من البازلت نظيره من الخرسانة بثلاثة أضعاف، لذا فإن هذا النوع من البناء بات يعرف ببناء الميسورين. وبالرغم من ذلك، فإن عمارة جديدة أعادت، خلال العقود الأخيرة، ضخ الحياة في شريان الحجر البازلتي، عبر أبنية تعتمد عليه اعتماداً كاملاً، أو تطعّمه بنظيره الأبيض لتزيد جمالية وجاذبية البناء.

وقبل حوالى ثلاثة عقود، بنى الأستاذ الدكتور رئيف مهنا، ابن بلدة بصير، قصراً كاملاً من البازلت تحدى نظراءه المهندسين من خلاله بأنه لن يستخدم فيه أي حديد تسليح. وفعلاً نجح في التحدي، ونقل تجربته، فيما بعد، إلى مدارس وزارة التربية، وإلى فلل بنتها مؤسسة الإسكان العسكرية، كما زاد الاعتماد على البازلت الذي يقص على شكل ألواح رخام للنوافذ والأدراج والمطابخ والمطاعم وغيرها، بل حلّ عمليا محل الرخام التركي الأبيض الذي كان قبل الأحداث منتشراً على نحو واسع.

إنها – باختصار – قصة الإنسان، في جنوب سورية، مع البازلت الضاربة جذوره في أعماق تاريخ المنطقة ووجدان أهلها.. قصة يشكل مدرج بصرى الشام وقلعتها والمساجد العمرية وكنيسة إزرع ودير الراهب بحيرا بعض فصولها!