أردوغان والتكتيكات المربحة
“البعث الأسبوعية” ــ تقارير
تاريخ لا نهاية له.. والتوترات بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى تتصاعد مرة أخرى. بدأ المدعو أردوغان ينفخ من جديد على جمر الصراع الذي لا يُرى. ومع ذلك، بدا أن التهدئة كانت في الطريق بعد صيف حار على الجبهة الدبلوماسية.
ولم يدم الهدوء طويلاً في شرق البحر الأبيض المتوسط. لقد أشعل أردوغان عاصفة دبلوماسية جديدة عندما توعّد منتصف تشرين الأول الجاري كلاً من اليونان والإدارة القبرصية اليونانية (..) بـ “الرد الذي يستحقونه على الأرض”، لقد كانت اللهجة تهديدية إلى حد ما. ولكن أين؟ وكيف؟ أولاً، في شرق البحر الأبيض المتوسط، وثانياً عبر سفينة الأبحاث الزلزالية، أورق ريس، التي تم نشرها مرة أخرى في المنطقة، على الرغم من احتجاجات أثينا. وقد كانت بالفعل في قلب التوترات من منتصف تموز إلى منتصف أيلول. صيف هذا العام.
في الواقع، إن اكتشاف رواسب كبيرة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط في السنوات الأخيرة هو الذي أضاف جرعة من السم إلى العلاقات المتوترة تاريخياً بين تركيا واليونان، وهما دولتان عضوان في حلف شمال الأطلسي. وقد أصبحت أورق ريس رمزاً لمطامع أنقرة من الغاز في هذا الجزء المتقلب من البحر “الأزرق الكبير”، حيث تطورت تحالفات اقتصادية وجيوسياسية جديدة. وتركيا وليبيا واليونان وقبرص ولبنان ومصر و”إسرائيل” كلها تشارك الآن في هذه التحالفات، على خلفية قرع طبول الحرب وصعود النزعات القومية.
في أيلول، كان استدعاء تركيا لـ أورق ريس إلى شواطئها بمثابة إشارة انفراج. ولكن عودتها إلى مياه البحر المتوسط لبضع ساعات، مرة أخرى، تعني وقفاً لجميع المحادثات الهادفة للتوصل إلى حل سريع، وقبل كل شيء حل دائم للأزمة. وقد دفع هذا الموقف دولاً مثل الولايات المتحدة وألمانيا، التي عادة ما تكون فاترة في انتقادها لنظام أردوغان، إلى حث أردوغان على إنهاء “الاستفزازات”. وعلى الفور تجاهلتها أبواق أنقرة الإعلامية، واعتبرتها “لا قيمة لها”، لا سيما عندما أنها مدعومة بمبررات قانونية أو تاريخية.
والحقيقة هي أن العثمانيين الجدد، ومعهم الكثير من الأتارتوكيين الحديثين، لا يرون الأمور من وجهة النظر نفسها، فـ “مع معاهدة لوزان، عام 1923، التي ختمت ولادة الجمهورية التركية ونهاية الإمبراطورية العثمانية، ضاعت “الجزر اليونانية الاثنتي عشرة”. ومنذ ذلك الحين، كان هناك شعور بالإذلال، وهو موضوع طرحته بشكل منهجي شخصيات إخوانية من حزب العالة والتنمية، بما في ذلك رجب أردوغان نفسه، الذي استخدمه وأساء استخدامه عدة مرات. إنه يتصفح كتاب الشوفينية الطورانية في تركيا بينما ينتقد مصطفى كمال أتاتتورك والكمالية. ويعتقد أردوغان في صميم قناعاته أن الوقت قد حان لإعادة تأكيد تركيا بتكلفة بسيطة من شعوب وموارد السلطنة السابقة: المال القطري والليبي خاصة، والمرتزقة من كل البلدان الإسلامية التي يتدخل فيها تحت رايات الحلف الأطلسي. والواقع، لا تزال تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي، ومرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.. ولكن ليس لدى أردوغان البديل لعدم التوازن هذا، وعليه فهو يزداد “عزلة” على الساحة الدولية، لكنه أيضاً يزداد تنازعاً في بلاده تحت الضغط الاقتصادي، مع انخفاض الليرة وارتفاع البطالة..
العزلة التركية واضحة أيضاً على قطعة صغيرة أخرى من الأرض المزروعة في البحر الأبيض المتوسط، ولكن حاسمة بالنسبة لتركيا: جزيرة قبرص. لقد تم تقسيم الجزيرة منذ تموز 1974، بعد اجتياح الجيش التركي للثلث الشمالي إثر المحاولة الانقلابية التي قام بها الكولونيلات اليونان للسماح بضمها الى اليونان. وترى تركيا، التي تبعد شواطئها نحو 80 كيلومتراً عن سواحل قبرص، أن الجزيرة تشكل جزءاً رئيسياً من استراتيجيتها لتوسيع حدودها البحرية. وقد جرت انتخابات “رئاسية” في الجزء الذي لا يعترف به المجتمع الدولي من الجزيرة، وهو “الجمهورية التركية لشمال قبرص”، وسكانها البالغ عددهم ٣١٠ آلاف نسمة. وحقق المرشح المدعوم من تركيا فوزاً هو أقرب إلى الهزيمة.
في هذا السياق من الهشاشة النسبية، يسعى أردوغان إلى طمأنة مناصريه داخلياً، من خلال الضغط على الأعصاب القومية والمذهبية. ولهذا، فإن مهاجمة أثينا تظل النشاط الأكثر ربحاً من حيث مكاسب الشعبية.
خلافاً لحقائق الوضع في سورية وأذربيجان حيث يبدو الانسحاب، أو إعادة الانتشار على الأقل، تكتيكاً مربحاً، يمكن القول إن اليونان هي العدو الأسهل لتركيا. إنها واحدة من الدول التي من الأسهل حولها تجميع شكل من أشكال الإجماع القومي في تركيا!