الانهيار الاقتصادي.. إعادة الضبط الشامل والديكتاتورية العالمية *
“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: هيفاء علي “بتصرف”
أثبتت سلطة الأوليغارشية السياسية التي يمثلها معظم القادة الأوربيين حيقة انهيار اقتصادات العالم الغربي، حيث عملوا على ترسيخ “ديكتاتورية صحية” بكل معنى الكلمة، على حد تعبير العديد من الخبراء والمحللين الغربيين، من خلال الإعلان عن إغلاق ثان لمواجهة الموجة الثانية من وباء كورونا.
صحيح أنه من الضرورة بمكان الاعتراف بخطرة هذا الفيروس على البشرية جمعاء بحكم الحقائق الراسخة: أكثر من 47 مليون إصابة في العالم وأكثر من مليون حالة وفاة منذ بداية العام، الغالبية العظمى منهم تزيد أعمارهم عن 85 عاماً، ولديهم أسباب الاعتلال المشترك “السرطان والسمنة والشذوذ الوراثي”، ولكن هذا لا يعني تضخيم الأرقام ومعاملة الجائحة على أنها كارثة القرن الحادي والعشرين.
علاوة على ذلك، وبالنسبة لاؤلئك الذين يفكرون قليلا، فإن الحجر الثاني يكشف المستور، ذلك أن الخبراء والساسة الأوربيين، والفرنسيين تحديداً، يعتبرون أن معظم العاملين في القطاعات الأساسية (المصانع، والبناء، والخدمات العامة، إلخ) سوف يتمتعون من الآن فصاعدا بالحصانة عندما يكونون في اماكن العمل، بينما العمال المستقلون في القطاع الخاص لديهم جهاز مناعي ضعيف، وبالتالي ممنوعون من العمل بكل بساطة، لذلك أصبح العمل المستقل والشركات الصغيرة رموزاً للتلوث الهائل والمخاطر المجتمعية الرهيبة. وبالتأكيد، يعتبر “وباء” فيروس كورونا فرصة مثالية للدخول في عصر جديد وابتلاع العقول المرنة لكل شيء.
تم الإعلان عن إعادة الضبط الكبيرة
بعد أسابيع قليلة من الإغلاق الأول للعالم الغربي، في حزيران الماضي، لم يتردد رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، كلاوس شواب، بالإعلان أن “هذا” الوباء قد وفر نافذة نادرة لإعادة تخيل ورسم العالم”. كما اتبعت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، خطى شواب من خلال استحضار عملية إعادة الضبط العظيم هذه في مؤتمر لها، بعنوان “إعادة التعيين الكبرى”، قامت خلاله باستحضار مؤتمر بريتون وودز، عام 1944، الذي وضع القواعد النقدية بعد الحرب العالمية الثانية، وسارعت إلى إعلان أن وباء فيروس كورونا جاء فرصة لـ “تغيير العالم”.
لذلك، ومن خلال الإعلان عن إعادة الإغلاق في فرنسا (وقريباً في كل مكان في العالم الغربي)، تم إطلاق إعادة التهيئة الكبرى هذه الآن، ففي مواجهة الديون العالمية، تدفع الطبقة المهيمنة، بلا خجل، مشروعها السياسي لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي.
الانهيار والحروب الأهلية
من المستبعد جداً أن تؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في 3 تشرين الثاني – على خلفية من الحرب بين ترامب والدولة العميقة التي يمثلها جو بايدن – على الحركة الأساسية التي تلوح في الأفق، والتي تستهدف السياسة النقدية الدولية المعمول بها منذ 1944/ 1971، أي أن الدولار الملك سوف يفسح المجال لشيء آخر.
بالنسبة لخبراء مثل جيمس تورك، وجون روبينو، أو حتى ستيفن روتش (أكاديميون وممولون وخبراء اقتصاديون)، من الواضح أن العالم سينهي الآن، بشكل كبير، التعامل بالدولارات، وستفقد العملة الأمريكية مكانتها المهيمنة في احتياطيات البنك المركزي، وفي السلل السيادية لعملات صندوق النقد الدولي.
والحقيقة، هناك معطيات عديدة تشير إلى أن الجميع يتوقع انهيار الدولار (ومعه اليورو بالتأكيد، أو بعده)، بل وتتحدث صحف كبرى متخصصة – مثل Capital أو Les Echos – عن ذلك منذ عدة أسابيع. وتنبع هذه التوقعات في جزء كبير منها من سلوك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
في الواقع، بدأت سياسات التيسير الكمي التي مورست منذ أزمة 2008، ولا سيما “التحول السوفييتي” الذي تبناه البنك المركزي الأمريكي، في آذار 2020، برعاية شركة الاستثمار والتخطيط المالي”بلاك روك”، وذلك في عملية تمويت بطيئة للنظام المالي العالمي القائم على الأوراق النقدية الخضراء، ولن تكون إعادة انتخاب ترامب، في نهاية المطاف، قادرة على عكس هذا الاتجاه، لأن الطبقة المهيمنة اتخذت قرارها، وهي تسنخدم كل الوسائل الهائلة التي بحوزتها لفرض مشروعها الخاص ببناء نظام عالمي جديد. وعليه، يتمثل السؤال الحقيقي الوحيد المطروح على الولايات المتحدة الأمريكية، على المديين القصير والمتوسط، في معرفة ما إذا كانت قادرة على تجنب الانزلاق إلى حرب أهلية أخرى.
ومن الجلي أن السؤال يطرح نفسه أيضاً في شروطه الأوروبية، لكن يبدو أن المؤسسة هناك تتمتع بهامش أكبر من المناورة: شعوب تتقدم في العمر، وسكان مدنيون غير مسلحين في الغالب، وموجات هجرة سرية هي دائماً الأكثر أهمية.
ففي أوروبا، وعلى الرغم من حالات الثورات النادرة – صربيا أو إيطاليا مثلاً – يبدو أن الأوليغارشية تحكم سيطرتها، وحتى الولايات المتحدة تشهد أيضاً عصر نهاية الإمبراطورية، وليس من المؤكد أن هذا السقوط المبرمج سوف يعجب بعض الطبقات الحاكمة الأمريكية.
على العكس من ذلك، فإن أوروبا القارية في حالة استسلام، ويتعزز هذا الموقف منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية. وهذا الانقياد يرمز إليه بشكل خاص باليورو الذي – وعلى الرغم من فشله السياسي وتراجع المشروع الذي يحمله – سيستمر فرضه على شعوب أوروبا القارية، ولكن بشكل آخر.
وبما أنه سيكون هناك دولار جديد قريباً، فسوف يكون هناك يورو جديد أيضاً، وهو ما همست به كريستين لاغارد، مديرة البنك المركزي الأوروبي. وسوف يؤدي الانهيار المقبل إلى تدمير حقيقي للعملة، ما يجلب معه الثروة الصغيرة التي ما زالت أوروبا القارية قادرة على إنتاجها. وبالتالي، فإن التغلب على هذا الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لن يكون ممكناً إلا من خلال إنشاء يورو رقمي، ولن تكون أوروبا هي الوحيدة التي ستفرض العملة الرقمية، بل سينسحب الأمر على الجميع، برأي خبراء الاقتصاد والمال؛ وهذا هو الحال بشكل خاص مع الصين، حيث قطع اليوان الرقمي خطوات كبيرة.
عصر الاشتراكية التعاونية والديكتاتورية العالمية
وفي ةالواقع، يشهد العالم في الوقت الراهن المرحلة الأخيرة من تهجين المجتمعات، وثمة انزلاق تدريجي نحو نظام شيوعي رأسمالي يجمع بين الظواهر النيوليبرالية، ومراحل “السفْوتة” (من السوفييتات)، حيث يندمج القطاعان العام والخاص بشكل ملموس لصالح طبقة عديمة الجنسية صغيرة جداً. إن مجتمع المستقبل الذي سيتم اقتراحه على المجتمعات الغربية يقوم على مبادئ بسيطة إلى حد ما: العمل، والعمل المأجور، والانضباط، والاستهلاك، والمراقبة المعممة. وبالنسبة للشعوب الأقل خضوعاً، فإن ظاهرتي “البلقنة” و”الأفرقة” هما بالفعل قيد التقدم، وسوف تغزو الحروب الداخلية، المرتبطة بالعرق والإيمان والقبيلة والنوع الاجتماعي، هذه المجتمعات لإرهاقها وتجبرها في النهاية على تقبل الأنموذج الجديد للمجتمع المادي الذي حمله النظام العالمي الجديد.
على المستوى الفردي أيضاً، يبدو المستقبل صعباً، حيث أن إغراء البقاء على قيد الحياة مثير للاهتمام، لكنه خيالي. الدولة التي تسيطر عليها هذه الطبقة الصغيرة من عديمي الجنسية والمرابين تهاجم بالفعل الحريات الفردية.
حقيقة الأمر، توضح أزمة كوفيد-19 أن الأهداف ذات الأولوية للطبقة المهيمنة هم صغار المنتجين، حيث سيتم نقل هذه “الأبقار النقدية” التي تسمن هذا النظام الطفيلي، في النهاية، إلى المسلخ. وسوف يتغير نظام التشغيل، وستُبذل هذه التضحيات القصوى لتنفيذ خطط شبكات البداوة المتفوقة “hyper nomades” التي تقود العالم. في الوقت الحالي، تموت الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، فهي نائمة مع الإعانات، أي الأموال الوهمية، لكنها في النهاية هي من سيدفع الفاتورة.
المقاهي والمطاعم والمحلات والمصانع لن تتحرك، بل تنتظر الموت ببطء. وغداً سيكون الجميع أجراء وموظفين لدى النظام الجديد، وسيكون الجميع في قبضة أسيادهم بشكل جماعي، وها هي الشركات العابرة للقومية بدأ يسيل لعابها، وسيختفي عالم العمل الحر والملكية الخاصة الصغيرة والحريات الفردية الأساسية بعد هجوم الوباء.
لقد تغير العالم بالتأكيد في هذا العام، 2020. وفي النهاية، قال إيمانويل غولدشتاين ماكرون: “كل الإجراءات المتعلقة بفيروس كورونا ستسمح لنا بالبقاء حتى إنتاج اللقاح”.. ولكن ما هو المرض الذي سيستخدم هذا اللقاح لعلاجه؟ يتساءل الخبراء والمراقبون.
* مارك غابرييل حقوقي فرنسي متخصص بتاريخ القانون