مجلة البعث الأسبوعية

هل يطيح اليوان الرقمي بعرش الدولار وبالعقوبات الأقتصادية!؟ البيتكوين يغري كبار المستثمرين ومبيضي الأموال وممولي الإرهاب..

البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

من الصعب جدا الوصول إلى نتيجة حاسمة بشأن قوة العملات الرقمية ومدى قدرتها على منافسة العملات الورقية، وخاصة البيتكوين، فهناك وجهات نظر متباينة بعضها مؤيد وأكثرها معارض، بل هناك من يتهم أجهزة مخابرات أمريكية بالوقوف وراء إطلاق البيتكوين. وإذا كان كثيرون استخفوا به عند أطلاقه، عام 2009، فإن الأمر اختلف جذريا الآن، ليس لأن قيمته تجاوزت عتبة الـ 50 ألف دولار فقط، بل لأنه بدأ يجذب كبار المستثمرين والشركات العالمية أيضا، ومعهم مبيضي الأموال وممولي الإرهاب، و.. المقامرين!

ومع ذلك، لا يزال الجدل محتدما حول البيتكوين، وفيما إذا كان عملة حقيقية أم مجرد فقاعة. ولا يبدو أن هذا الجدل سينتهي في وقت قريب بدليل أن بعض الدول حظرت استخدامه على أراضيها، في حين سمحت دول أخرى بتداوله، ولو على نطاق ضيق.. والمهم أن المصارف والمؤسسات النقدية الدولية بدأت تتلمس خطر البيتكوين، وبدأت تخطط لإطلاق عملات بديلة ومنافسة تتحكم بعمليات إصدارها وتداولها وتحركها في الأسواق العالمية. والخطر الأكبر – برأي مؤسسات مالية دولية، والأوروبية منها خاصة – أن استخدام البيتكوين يفتح المجال واسعا للتهرب الضريبي، بل وأيضا لغسل أموال المخدرات وتمويل الإرهاب. والخطر الأكبر بالنسبة للأمريكان أن اليوان الرقمي الذي تستعد الصين لإطلاقه رسميا، سيطيح خلال سنوات بالدولار وبالعقوبات، فالدول التي تخضع لحصار الدولار سيصبح بإمكانها اعتماد اليوان الرقمي المتحرر من مؤسسات النقد الخاضعة لأوامر الإدارة الأمريكية وحكومتها العميقة.

 

من يسمح بتداول البتكوين؟

لا يحتاج البيتكوين إلى قرار من أي دولة للسماح بتداوله، فهو عملة عابرة للحدود لا تخضع لسيطرة الحكومات والمؤسسات النقدية الوطنية أو الدولية، وبإمكان الجميع امتلاكه أو بيعه، وحاليا استخدامه كأداة لشراء السلع والمواد والخدمات. وقد بدأت بعض الحكومات والمؤسسات التجارية اعتماده رسميا، وأعلنت كند عن موافقتها على إطلاق أو ل صندوق استثماري لعملة البيتكوين في العالم، وقد سبقت شركة “تيسلا” لصناعة السيارات الكهربائية الحكومة الكندية بأيام فأعلنت عن استثمار كبير بقيمة 1.5 مليار دولار في عملة البيتكوين.

 

ما هي عملة البيتكوين؟

البيتكوين عملة مشفرة تم اختراعها في عام 2008 من قبل شخص أو مجموعة أطلقت على نفسها اسم “ساتوشي ناكاموتو”، ودخلت بالتداول للمرة الأولى، عام 2009، كبرنامج مفتوح المصدر، وهي بذلك أو ل عملة رقمية لا مركزية، أي من دون وجود بنك مركزي، ويمكن إرسالها من شخص إلى آخر عبر شبكة بيتكوين بطريقة الند للند، دون الحاجة إلى وسيط طرف ثالث كالبنوك. ويتم التحقق من حوالات الشبكة باستخدام التشفير، ويتم تسجيلها في دفتر حسابات موزع يسمى “سلسلة الكتل”.

وسلسلة الكتل هي أكبر سجل رقمي عالمي موزع ومفتوح يسمح بنقل أصل الملكية من طرف إلى آخر دون الحاجة لوسيط، مع تحقيق درجة عالية من الأمان لعملية التحويل، في مواجهة محاولات الغش أو التلاعب، ويشترك في هذا السجل جميع الأفراد حول العالم، أي أن البيتكوين متاح للجميع ولو نظريا. ولضمان صحة عمليات التحويل، يقوم نظام البيتكوين بالاحتفاظ بسجل حسابات تُسجل فيه جميع الإجراءات التي تتم على الشبكة، تتشارك فيه جميع العقد المتواجدة على شبكة البيتكوين، ويعتمد هذا السجل على بروتوكول “بتكين”.

وتحتوي سلسلة الكتل على جميع الإجراءات التي تمت باستخدام “بتكين”، وهو ما يتيح معرفة الرصيد الذي يملكه كل عنوان على هذه الشبكة. ويُطلق على هذا المفهوم وصف السلسلة للترابط المتواجد ما بين الكتل، حيث تحتوي كل كتلة على “هاش” الكتلة التي تسبقها، ويتواصل الأمر إلى غاية الوصول إلى الكتلة الأولى التي يُطلق عليها اسم “كتلة التكوين”.

وتكوين السلسلة بهذه الطريقة يجعل من مهمة تغيير أي كتلة بعد مرور مدة معينة على إنشائها في غاية الصعوبة، فتغيير أي كتلة يتطلب تغيير كل الكتل التي تليها بسبب الحاجة إلى إعادة حساب “هاش” كل كتلة لتحديث قيمة “هاش” الكتلة السابقة فيها، ويمكن اعتبار سلسلة الكتل هي العمود الفقري الذي لا يمكن لعملة بتكين الوقوف دونه.

ويتم إنشاء البيتكوين كمكافأة لعملية تعرف باسم التعدين، ويمكن استبدالها بعملات ومنتجات أخرى.

وقد توحي هذه المعلومات بأن مستخدمي العملات الرقمية قلة أو من الهواة أو المغامرين السذج، لكن البحوث التي أجرتها جامعة كامبريدج أشارت إلى أن عام 2017 سجل ما بين 2.9 إلى 5.8 مليون مستخدم يستعمل محفظة عملة رقمية، ومعظمهم يستخدم البيتكوين، والرقم الفعلي أكبر بكثير لأن الشبكة لم تعلن عن عدد مستخدمي البيتكوين.

وأول عملية شراء بالبيتكوين كانت مقابل قطعتي بيتزا، حينما قام مبرمج يدعى لازلو هانيتش بنشر نقاش على منتدى بتكوين يطلب فيه شراء قطعتي بيتزا كبيرتي الحجم مقابل 10 آلاف بتكوين، بتاريخ 18/ 5/ 2010، وبعد 11 عاما على تلك الصفقة تجاوزت قيمة قطعتي البيتزا 318 مليون دولار، وهو رقم أكثر من خيالي، فلم يكن أحد ليتوقع، في عام 2011، أن البيتكوين الواحد سترتفع قيمته إلى 31800 دولار!

 

ما المقصود بالتعدين؟

لا يمكن امتلاك البيتكوين بطريقة سهلة، كما حال العملات الورقية أو الحسابات المصرفية، فهي تحتاج إلى عملية معقدة تسمى “التعدين”، فإنتاج كمية جديدة من البيتكوين يحتاج إلى كمية عالية من الكهرباء،

ولا شك أن الكثيرين يستغربون السعر المرتفع للبيتكوين، ويسألون عن السبب: لماذا؟

إذا عرفنا كلفة إنتاج البيتكوين فسنكتشف أنها مرتفعة، فهو سلعة تحتاج إلى كمية كبيرة من الكهرباء لإنتاجها، وبالتالي يفترض أن يكون سعر البيتكوين مقاربا على الأقل لسعر الكهرباء التي تم استهلاكها لإنتاجه، أو أعلى بقليل بحكم قيام “المنقبين” بدور حيوي لشبكة بيتكوين، فمثلا، قيام المنقبين بتحقيق 4 ملايين وحدة خلال 24 ساعة يحتاج إلى أكثر من 11.4 مليون “غيغا هاش” بالثانية، وهذا الرقم الكبير جدا يحتاج إلى حجم ضخم من الكهرباء، لذا لن يبيعوا البيتكوين بسعر أقل من تكلفة إنتاجه مع هامش للربح على الأقل.

 

مزايا البيتكوين

من أبرز وأهم مزايا شبكة البيتكوين “الآمان”، فمنذ انطلاقها، عام 2009، لم يستطع أحد اختراق سلسلة كتل البيتكوين، والاختراقات التي حدثت حتى الآن كانت بسبب أخطاء بشرية، في إدارة المحفظة، وليس بسبب عيوب في التصميم.

ولهذا السبب تعتبر البتكوين عملة “معمّاة”، فهي تعتمد على مبادئ التشفير في جميع جوانبها، ولا تتطلب عملية التحويل سوى معرفة رقم محفظة الشخص المحول إليه برقم تسلسلي خاص، ولا يتضمن هذا اسم المرسل، أو المتلقي أو أي بيانات. ويتم تخزين عملية التحويل في سلسلة الكتل الأخرى الخاصة بهما.

وهذه السرية جعلت البيتكوين فكرة رائجة لدى كل المدافعين عن الخصوصية، وهي التي تغري المقامرين والمغامرين، كما انها مغرية جدا للمتهربين من دفع الضرائب ولتجار المخدرات عبر الإنترنت، فهي أداة ممتازة لا يمكن تعقبها، فالنقود تذهب من حساب مستخدم إلى آخر بشكل فوري، ودون وجود رسوم تحويل باستثناء رسوم الشبكة التي تُدفع للمعدنيين!

وتتوفر العملة على مستوى العالم، ولا تحتاج لمتطلبات أو أشياء معقدة لاستخدامها؛ وعند الحصول عليها يتم تخزينها في محفظة الكترونية، ومن الممكن استخدام هذه العملة في أشياء كثيرة، منها شراء الكتب والهدايا، أو الأشياء المتاح شراؤها عن طريق الانترنت وتحويلها لعملات أخرى، مثل الدولار أو اليورو!!

 

من وراء إطلاق البيتكوين؟

ولا يستبعد بعض خبراء الاقتصاد وأمن المعلومات أن تكون أجهزة حكومية أمريكية وراء إطلاق البيتكوين، وإلا ماالهدف من السرية التي تحيط بهوية أصحابها. ويرى هؤلاء أن وكالة الأمن القومي الأمريكي هي التي تقف وراء هذه العملة. وقد خصص الصحافي والروائي أندي مارتن مقالة مطولة عن العميل كورتيس تينغ تحت عنوان “ملك العملات المشفرة جاء من أف بي آي” سرد فيها سيرته الذاتية وعملية انخراطه في مكتب التحقيقات الأمريكي، ومنه إلى منصب مدير إداري لأوروبا في شركة “كراكن”، وهي إحدى أكبر بورصات العملات المشفرة في العالم.

وينقل مارتن عن تينغ قوله: “الآن، انتقل من الحفاظ على أمن الأمة بوصفي محققاً في مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) إلى مكافحة الجريمة الإلكترونية في كواليس عملة بيتكوين المشفرة بوصفي مديراً إدارياً لأوروبا في كراكن”.

وكان تينغ معدا لإحاطات رئاسية يومية، إذ عمل كجهة اتصال بين مدير إف بي آي، والنائب العام الأميركي، وحينما أغلق إف بي آي، عام 2014، السوق السوداء المسماة “طريق الحرير” (تشبه موقع أمازون لكنها تتعامل بأشياء غير قانونية) على الإنترنت المظلمة، تبيّن أن بيتكوين تشكّل العملة المفضلة فيها.

 

تشكيك

وعلى الرغم من انتشارها وارتفاع سعرها وجذبها لشركات كبرى، فإن عملة البيتكوين لا تحظى بقبول المصارف ولا المؤسسات النقدية؛ وقد حذّر أندرو بيلي محافظ بنك إنجلترا من استخدام البيتكوين كوسيلة للدفع، قائلا إنها تفتقر إلى “القيمة الجوهرية” على عكس النقد أو الذهب، كما حذّر بنك أوف أميركا سيكيوريتيز من أن مستثمري بيتكوين يمكن أن يكونوا في قلب “فقاعة”، ويأتي التحذير في وقت تشير الأرقام إلى تكدس المستثمرين البريطانيين في تداول هذه العملة هذا العام، حيث أظهر الذين يستخدمون الجنيه الإسترليني صفقات بيتكوين بقيمة تقرب من مليار جنيه إسترليني، في الأيام السبعة الأولى من العام 2021.

وأعلنت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، في ندوة نظمتها مجلة الـ “ايكونوميست” قبل أسبوعين، أن بيتكوين وغيرها من العملات المشفرة ليست عملة، ولا تلبي المعايير الثلاثة الأساسية للعملة، كما أنها ليست مستقرة بالشكل الذي يجعلها عملة، وأضافت: “هي فقط أصل تداول رقمي أو أصل مشفّر.. إن بيتكوين حسب معاييرنا ليست عملة، وإن جادل البعض بأنها تملك معياراً من معايير العملة فهذا لا يجعلها عملة”.
مفاحأة صينية ستصدم الأمريكان!

وإذا كانت المؤسسات النقدية والحكومات الغربية لا تزال تستخف بعملة البيتكوين، إلا أنها بدأت تشعر بالقلق، إن لم يكن بالرعب من المفاجأة الصينية المتجسدة بإطلاق اليوان الرقمي؛ وهذه المفاجأة ستصدم الأمريكان لأنها تهدد عرش الدولار، وقد تطيح بسلاح العقوبات الاقتصادية الأمريكية إلى الأبد، أو ستضعف فعاليته، كما ستعيق قدرة السلطات الأمريكية على تتبع التدفقات المالية؛ وفي الوقت نفسه، ستستخدم الصين مجموعة من اليوان الرقمي ومنصات الدفع الإلكترونية القوية مثل Alipay، أو WeChat، لتوسيع نفوذها وتعزيز قدرتها على الإكراه الاقتصادي في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا؛ واليوان الرقمي بعيد كل البعد عن البيتكوين، فهو شديد المركزية، ويسيطر عليه بنك الشعب الصيني، ويتكامل مع النظام المصرفي الحالي في الصين.

 

بالمختصر المفيد

البيتكوين مثل غيره من العملات الورقية يثبت مبدأ غريشام “العملة الرديئة تطرد الجيدة”، فلم يعد أحد يتحدث عن الذهب كعملة تستخدم في التجارة بعدما رفضت أمريكا منذ عام 1971 استبدال الدولار بما يعادل قيمته ذهبا، لكن يكفي فخرا لمطلقي البيتكوين – حتى لو كانوا من أجهزة المخابرات – أنهم شرّعوا الأبواب على مصراعيها لاقتصاديات منافسة، مثل الصين وروسيا، لإطلاق عملات رقمية ستطيح في القادم من السنوات بالدولار، وبسلاح العقوبات الاقتصادية، ما سيحرر الدول المستضعفة من الهيمنة الغربية بالضربة القاضية!