قراءة في وثيقة “الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي”.. المشهد العالمي ينطوي على التباس كبير!!
“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف
درج رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على نشر رؤاهم للأمن القومي الأمريكي، وفي هذا الشأن نشر البيت الأبيض يوم الخميس الماضي، الرابع من آذار الحالي، استراتيجية جو بايدن للأمن القومي في وثيقة حملت عنوان “دليل استراتيجية الأمن القومي المؤقتة”.
تقدم هذه الاستراتيجية مقاربة للسياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، وهي تقوم على شعار “عودة أمريكا”، الذي تكرر ذكره في الوثيقة 22 مرة، وهو ما يتناقض مع مقاربة سلفه الرئيس ترامب التي قامت على شعار “أمريكا أولاً”.
حددت الوثيقة جملة من القضايا الشائكة التي تواجه الولايات المتحدة، ومن بينها صعود القوى المنافسة لها، وتحديداً روسيا والصين، كما ذكرت أن واشنطن لن تتردّد في استخدام القوة عند الحاجة لذلك من أجل الدفاع عن مصالحها، في وقت تناولت فيه الاستراتيجية قضايا وأزمات الشرق الأوسط باعتبارها من بين الملفات ذات الأولوية.
وجاءت البدايات مع ما أكّدته إدارة بايدن بقولها إن الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في منطقة المحيط الهادئ وأوروبا، بينما سيكون في الشرق الأوسط بما يكفي لتلبية احتياجات معيّنة.
ومن الواضح أن الاستراتيجية تتضمن مفارقة واضحة، وهي أن واشنطن تبرر مساعيها لدعم الاستقلال السياسي والاقتصادي للدول برغبتها في مواجهة النفوذ الأجنبي “غير المبرر”، وكأن ذلك النفوذ مباح لواشنطن دون الآخرين، ما يعني أن هناك التباساً كبيراً في المشهد القادم. صحيح أن بايدن تناول في استراتيجيته فكرة إعادة الثقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أربع سنوات من حكم الرئيس ترامب، والذي يعتبر البعض أنه تسبب في وضع الكثير من العصي في دواليب علاقة أمريكا ببعض من دول العالم، لكنه لم يتناول الأساس المطلوب لإعادة هذه الثقة، وهل هو قوة أمريكا الناعمة أو الخشنة.
الصين التحدي الأكبر
وقد ركزت الاستراتيجية على بكين “الخصم الرئيسي المحتمل”، وبشكل لا يقبل الشك، باعتبارها تشكل خطراً أساسياً على “استقرار النظام العالمي والاقتصاد العالمي المفتوح”. وبالتالي يُفهم من ذلك أن الصين ستكون الهدف الرئيسي في سياسة الأمن القومي الأميركي في الفترة المقبلة. تنظر الاستراتيجية إلى الصين، التي وصفت بأنها أصبحت أكثر ثقة بالنفس الآن، باعتبارها الدولة الوحيدة القادرة على دمج قدراتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية وحتى التقنية لتشكيل خطر على النظام العالمي.
وتوعدت الاستراتيجية بـ “الرد على سلوك الصين”، ومواجهة “الممارسات التجارية غير العادلة وغير المشروعة والقرصنة الإلكترونية، والممارسات الاقتصادية التي تؤذي العمال الأميركيين”. كما نصت الاستراتيجية النص على “دعم واشنطن لجيران الصين والشركاء التجاريين في الدفاع عن حقوقهم. في المقابل أبدت الوثيقة مرونة في التعامل مع بكين، وجاء فيها: “نحن ندرك أيضاً أن المنافسة الاستراتيجية لا تمنع ولا ينبغي أن تمنع العمل مع الصين عندما يكون من مصلحتنا الوطنية أن نفعل ذلك.. تجديد مزايا أميركا يضمن أننا سنشرك الصين من موقع ثقة وقوة، وسنتبع دبلوماسية عملية موجهة نحو النتائج مع بكين والعمل على تقليل المخاطر.. نرحب بتعاون الحكومة الصينية في قضايا مثل تغير المناخ والأمن الصحي العالمي والحد من التسلح.. مصائرنا الوطنية متشابكة”.
روسيا الخصم الثاني
أما بالنسبة لروسيا، فبشكل غير مباشر تذهب الوثيقة إلى اعتبار أنها “غير قادرة اليوم على الدخول في مواجهة مباشرة وصريحة مع الولايات المتحدة”. وقد تمت الإشارة إلى الدور الروسي ضمن الاستراتيجية كدور سلبي تلعبه موسكو بما يقوض القوى الأميركية والعمل على الحد من القدرة الأميركية على الدفاع عن نفسها ومصالحها. وسلطت الاستراتيجية الضوء على مساعي موسكو لتوسعة نفوذها العالمي، وذهبت إلى اعتبار أن الدور الذي تلعبه روسيا هو دور مزعزع للاستقرار على المستوى الدولي.
واعتبرت الاستراتيجية أن “الدفاع عن أميركا يعني أيضاً تحديد أولويات واضحة ضمن الميزانية الدفاعية (..) سوف نحافظ على الجاهزية ونضمن بقاء القوات المسلحة الأميركية في أفضل حالاتها، قوة مدربة ومجهزة في العالم، في مواجهة التحديات الاستراتيجية بشكل متزايد”.
ردع إيران والدبلوماسية الهادئة
وفي مرتبة تالية جاء الملف الإيراني، إذ حددت الاستراتيجية أسلوب معالجة البرنامج النووي الإيراني وأنشطة طهران التي وصفتها بـ”المزعزعة للاستقرار”، وذلك عبر “استخدام المبادئ الدبلوماسية”. ويبدو من الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي، أن “إيران تشكل خطراً، ودولة مزعزعة للاستقرار، لكنها في الوقت نفسه ليست الأولوية القصوى أو الأولى في هذا التوقيت بالنسبة للإدارة الأميركية”، حيث إن “الأولوية على ما يبدو واضحاً في الاستراتيجية هي للتعامل مع الملف الصيني بشكل كبير.
واعتبرت الاستراتيجية إيران – إلى جانب كوريا الديمقراطية – ضمن القوى الإقليمية الفاعلة الساعية إلى قدرات تغيير قواعد اللعبة، وتشكل تهديداً لحلفاء واشنطن وشركائها وتتحدى الاستقرار الإقليمي.
الشرق الأوسط
وبموازاة الموقف من إيران، ركز الدليل الاستراتيجي المؤقت على ملفات الشرق الأوسط، وحدد أولويات الإدارة الأميركية في عدة ملفات، يأتي في مقدمتها المحافظة على الالتزام الصارم بأمن “إسرائيل”، مع السعي لاستئناف الدور الأميركي كمشجع لحل الدولتين.
كما تضمنت الوثيقة العمل على معالجة الأزمات الإنسانية ومضاعفة الجهود الأميركية المبذولة لحل النزاعات المسلحة المعقدة التي تهدد الاستقرار الإقليمي. ولا تعتقد الولايات المتحدة الأميركية بأن القوة العسكرية هي الرد على التحديات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي جاء في الدليل أن واشنطن “لن توقع شيكاً على بياض لمتابعة سياسات تتعارض معم مصالحها في المنطقة”.
وركزت الاستراتيجية على أولوية ملف “مكافحة الإرهاب” في الشرق الأوسط والعالم. وأبدت اهتماماً أميركياً بمواجهة تنظيم “القاعدة” والتنظيمات الإرهابية عموماً وكذا “منع عودة داعش”، وذلك ضمن الملفات الرئيسة التي توليها واشنطن اهتماماً في الشرق الأوسط.
وتضمنت التأكيد على أهمية ألا تخوض واشنطن حروباً أبدية سبق وكلفت الآلاف من الأرواح وتريليونات الدولارات. وتعهدت بالعمل على إنهاء الحرب في أفغانستان مع ضمان عدم تحول أفغانستان مرة أخرى إلى ملاذ آمن للإرهابيين والهجمات ضد الولايات المتحدة. كما تضمنت أيضاً التأكيد على اتجاه واشنطن لتحديد حجم وجودها العسكري في الشرق الأوسط ليكون على المستوى المطلوب لتعطيل شبكات الإرهاب الدولي وردع إيران.
أفريقيا
وفي السياق، تناول الدليل الاستراتيجي المؤقت، العلاقة مع القارة الأفريقية، من خلال العمل على بناء شراكات في القارة، والاستثمار في المجتمع المدني وتقوية الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية طويلة الأمد.
كما حظيت العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة ودول القارة بمساحة من الاهتمام، التي عبرت عن اعتزامها التشارك مع اقتصادات أفريقية ديناميكية وسريعة النمو. وكذا ستعمل واشنطن على “إنهاء الصراعات الأكثر دموية في القارة ومنعها، مع تعزيز التزامها بالتنمية والأمن الصحي والاستدامة البيئية والتقدم الديمقراطي وسيادة القانون”. كما ستساعد الولايات المتحدة الدول الأفريقية التي تكافح التهديدات التي يشكلها تغير المناخ والتطرف العنيف، وتدعم الاستقلال الاقتصادي والسياسي في مواجهة النفوذ الأجنبي غير المبرر.
يؤكد ذلك أن العلاقات في الفترة المقبلة بين أفريقيا والولايات المتحدة ستكون أقوى، وستكون هناك مساحات وتشارك كبير، ليس دعماً للدول الأفريقية وإنما دعماً أيضاً لنفوذ وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.
تغير المناخ.. وتهديدات عالمية
وبموازاة التهديدات الخارجية التي تواجه مصالح الولايات المتحدة الأميركية، تحدثت الوثيقة بشكل موسع عن جملة من التهديدات الكبرى التي تواجه العالم أجمع، وهي تهديدات “لا تعرف حدوداً ولا أسواراً”، داعية إلى “عمل جماعي موسع من أجل التصدي لها”. من بين تلك التهديدات الجوائح (مثل جائحة كورونا) وكذا التهديدات الإلكترونية، فضلاً عن التطرف.
وتعتبر قضية التغير المناخي من الملفات الهامة التي أولاها الدليل الاستراتيجي للأمن القومي الأميركي اهتماماً كبيراً. بداية من “الخطوات الداخلية”، والتي تتلخص في تهيئة الاقتصاد الأميركي لجعله أكثر مرونة في مواجهة الصدمات العالمية مثل كورونا وتغير المناخ.
الوثيقة نفسها ذكرت أن الولايات المتحدة ستولي أهمية للتعاون الدولي، وكذلك التحالفات والشراكات، مشيرةً إلى وجود “اتجاه لإعادة تأسيس قيادة واشنطن في المنظمات الدوليّة من أجل إيجاد حلول للمشاكل العالمية”. وقالت إن “الدبلوماسيّة ستكون مفضّلة على استخدام القوة العسكريّة”، مضيفةً: “بينما نحمي مصالح أميركا على الصعيد العالمي، سنتخذ خيارات حكيمة ومنضبطة في دفاعنا الوطني والاستخدام المسؤول لجيشنا”.