مجلة البعث الأسبوعية

بين سندان “ندرة المعلومات” ومطرقة “تدني الدخل”.. إلى أي حد ترتبط صحافتنا الاقتصادية بواقعنا الاقتصادي؟!

“البعث الأسبوعية” ــ ديانا رسوق

في وقت يرى البعض أن تطور الصحافة الاقتصادية مرتبط بالضرورة بتطور الاقتصاد الكلي ومؤشراته التنموية، يرى البعض الآخر أن تدهور الاقتصاد، وتدني مستوى مؤشراته، وتراجع نشاط مكوناته، يفترض أن يشكل حافزاً لتطور الصحافة الاقتصادية، خاصة وأن مثل هكذا أخبار عادة ما تشكل مادة دسمة للإعلام، ما يتيح أمامها بالنهاية فرصة – ربما – ذهبية للخروج عن المسار النمطي بتقديم المعلومة من جهة، وطرح أفكار ومبادرات لمعالجة ما يواجه النهوض الاقتصادي من تحديات من جهة ثانية، وتسليط الضوء على مكامن الخلل ومواطن القوة وإمكانية تفعيلها من جهة ثالثة..!

 

بين الذاتي والموضوعي

ما سبق هو مجرد خط عريض لمدى ارتباط الصحافة الاقتصادية بالواقع الاقتصادي، لكن لدى الحديث عن التفاصيل تتعدد الآراء حول ما تتطلبه النشاطات الاقتصادية من صحفيين اقتصاديين متخصصين، فمن هذا الآراء ما يجنح نحو الاعتماد على خبراء الاقتصاد العارفين بخفاياه وأرقامه الجافة، ومنها ما يرى أن الصحفي هو الأقدر على القيام بهذه المهمة، نظراً لما يفترض أن يتمتع به من إمكانيات تعبيرية ولغوية قادرة على تبسيط هذه الخفايا والأرقام، ومنها ما يؤكد على ضرورة تأهيل الصحفي اقتصادياً على الأقل لجهة المعرفة بألف باء الاقتصاد وبعض التفاصيل المتعلقة بالنشاط الاقتصادي بشكل عام؛ وهنا، يوضح المحلل الاقتصادي شادي أحمد أن ثمة أسباباً عدة لتراجع الصحافة الاقتصادية السورية، منها ما هو ذاتي يتعلق بشخصية الصحفي، ومنها ما هو موضوعي، فالأسباب الشخصية تتعلق بأن معظم من يكتب بالصحافة الاقتصادية هم إعلاميون جنحوا إلى الاهتمام بالشأن الاقتصادي، وقلما نجد اقتصاديين يكتبون في الإعلام، مشيراً إلى أن هناك فرقاً كبيراً ما بين إعلامي يكتب بالاقتصاد، واقتصادي يكتب بالإعلام، فالإعلامي لا يستطيع الدخول بالأسس النظرية العميقة للاقتصاد من أجل أن يحدد مسار كتاباته، وبالتالي هو يكتب في ظل ما يشاهده بالأسواق والمؤسسات وفي ظل التقارير التي يحصل عليها، وهذا الأمر يؤدي إلى عدم الوصول للنقد والتقييم الحقيقي للحالة الاقتصادية. أما ما يتعلق بالظروف الموضوعية فقد بين أحمد أن هناك ضعفاً وضآلة شديدة في المعلومات والبيانات المتاحة أمام الإعلام الاقتصادي وأمام من يعملون فيه، وبالتالي فإن ضعف هذه البيانات وعدم وجودها وقلتها لا يمكنّهم من القيام بالكتابة الصحفية بالشكل الكافي.

 

للمال كلمته

يفرض المردود المالي المحقق من العمل في قطاع الإعلام نفسه أسوة ببقية القطاعات الأخرى، إذ قد يكون لضآلة هذا المردود دوراً في ضآلة المنتج الإعلامي عموماً، لكن ورغم أن مردود المنتج الإعلامي الاقتصادي قد يكون أفضل من نظيره في القطاعات الأخرى، وبالتالي من المفترض أن يكون أكثر جودة، إلا أن واقع الأمر يعكس ندرة ملحوظة للصحفيين الاقتصاديين الحقيقيين، ويبين الزميل الإعلامي الاقتصادي ناظم عيد أنه لو كان الاقتصاد قوياً ومتيناً فمن المفروض أن يكون هناك إعلام يواكب هذا الاقتصاد، أما الآن فالكتابات محصورة عن الحصار، وعن توقف القطاعات وخروجها عن الإنتاج، وأصبح أشبه بالتكرار، أما لو قمنا بمقارنتها بزمن الانتعاش فسرعان ما نجد أنه كان هناك زخم ملحوظ للمواقع الالكترونية الخاصة وأعمال الإخراج والتصميم الفني والمطابع، ما حقق بالنتيجة مردوداً عالياً للصحفيين، أما الآن فالعديد منهم قام بتغيير مجالاته وذهابه لمجالات أخرى بهدف المردود المادي.

 

لا تراجع

في وقت لم ير الزميل علي عبود أن هناك تراجعاً للصحافة الاقتصادية، بدليل وجود كم كبير من المواقع المتخصصة، أشار إلى أن الصحافة الاقتصادية هي انعكاس لنشاط كل من القطاعين العام والخاص، وبالتالي من الطبيعي أن تتأثر الصحافة الاقتصادية بضعف نشاطهما خلال الحرب؛ وأرجع عبود هذا التراجع – إن وجد، حسب قوله – إلى ما يكتبه الصحفي وكيفية أسلوبه، مركزاً على أنه لا ينبغي أن يكون الصحفي متخصصاً بفرع معين، أو لا يكتب إلا بمجال معين، لأن على الصحفي أن يكون ملماً بالمجالات كافة، وعلى معرفة بالاختصاصات كلها، وغير ذلك يعتبر “موضة”.

ويتقاطع الزميل علي محمود جديد مع الزميل عبود لجهة عدم تراجع الصحافة الاقتصادية، ولكن الصحفي لا يستطيع الخروج بعيداً عن المعطيات المتوافرة – كما أكد جديد – مشيراً إلى أن الصحافة، وبعد آثار الحرب، لا تعطي إلا ارتدادات لما يحدث، فبعد أن كان تركيزها على رصد الصادرات وعملية ترشيد الواردات والمستودات وقضايا التأمين والبنوك والاستثمار وسوق الأوراق المالية، أضحى جل اهتمامها اليوم رفع الرواتب وتذبذب سعر الصرف وقيمة الليرة المتدنية، وبالتالي فالوضع الاقتصادي – بحالتيه الجيدة أم المتراجعة – يعتبر محفزاً للصحفي، وهذا ما يعمل عليه الصحفيون اليوم. وأضاف جديد: حالة الحرب المستمرة أحدثت حالة من الجمود على الأصعدة كافة في نهاية المطاف، إلا أن الصحافة يجب أن تكون بمنأى عن ذلك، إذ يجب أن تكون منفعلة ومتفاعلة مع الواقع.

 

لا بد من وجوده

في حين يرى الزميل جديد أن ازدهار الصحافة الاقتصادية لا يرتبط أبدا بازدهار الاقتصاد، وإنما بتطورها وتفاعلها مع الواقع سواء كان الاقتصاد متردياً أم مزدهراً، فحال الاقتصاد مهما كان وضعه “متراجعاً أم نامياً” هو بيئة مناسبة للصحفي الاقتصادي، وعليه أن يستقي منها المعلومات التي تغذي مواده الصحفية، يؤكد الزميل عيد على ضرورة وجود الاقتصاد بالصحافة، مشيراً إلى أن الجانب السياسي والثقافي لم يحققا استقطاباً كالاقتصادي في الصحف، فالاقتصاد الذي يتضمن بيانات الصادرات والورادات والاستثمار مهم جداً، إلا أننا اليوم لا نملك بعد التشتت والحرب إلا معلومات وبيانات تهم المواطنين كالخدمات والأسعار، على اعتبار أن الكتابة عن تداولات البورصة، وشركات الوساطة التي تتلاعب ولا تؤدي أي دور، وتناول توريد المستوردات والبنوك الخاصة، لا يهم إلا قلة قليلة من المواطنين الذين يمتلكون ثقافة الأسهم، كما أننا بتنا بحالة ابتعاد عن كتابة مواد عن هيئة الاستثمار السورية، فالآن لدينا مواد رأي لا تسمى اقتصادية لأننا لا نستطيع كتابة تكهنات ونحن بحالة عجز.

 

بيئة غير سليمة

في وقت لا يمكننا إنكار أن أي نشاط اقتصادي لا بد له من إعلام اقتصادي يواكبه، تبدو البيئة الاقتصادية بمجملها بيئة غير سليمة، وفقاً لرأي الزميل أيمن قحف الذي أشار إلى أن البيئة الإعلامية يسودها الكثير من الخلل، وبالتالي عندما يتلاقى خلل الاقتصاد مع خلل الإعلام يتولد إعلام اقتصادي ذو خلل مضاعف؛ وحين نتحدث عن إعلام لا يملك بيئة أنموذجية واقتصاد غير معروفة ماهيته، إن كان اقتصاداً اشتراكياً أم اقتصاد سوق، هنا لا نعلم كيف يواكب إعلام اقتصادي متعب وغير متخصص اقتصاداً ليس له هوية!!

واستذكر قحف مرحلة ازدهار الصحافة الاقتصادية حين كان الإعلام يشكل حالة جديدة رافقت انفتاحاً اقتصادياً كان مزدهراً من خلال الصفحات الاقتصادية في الصحف العامة (البعث – تشرين – الثورة)، فكانت كل المؤسسات وخاصة التابعة للقطاع الخاص تسعى لنشر اسم أو خبر أو تغطية في فعالية اقتصادية ما، مشيراً إلى أن القاسم المشترك للجميع اليوم هو غياب التخصص، إذ لا يوجد صحفي متخصص بالمجال الاقتصادي؛ ولم يستثن قحف ذاته من هذا السياق، مشيراً إلى أنه درس الإعلام، ولديه فترة عمل 25 سنة بالإعلام الاقتصادي، ولم يخضع سوى لبضع دورات اقتصادية فقط! معتبراً أن الدورات التدريبية لا تفي بالغرض من جهة، ولا وجود لمؤسسات بحاجة للتخصص من جهة ثانية، فالبورصة تكاد تكون حديثة التواجد، وتعتبر الآن شبه بورصة، وبالتالي لا نملك اليوم صحفيين متخصصين بالبورصة.

 

تراجع

وبين قحف أنه عند مجيء الحرب أولاً وكورونا حالياً، تراجع الاقتصاد وأصبح لقضاء الحاجات الأساسية والأخبار الحالية التي يعيشها السوق فقط، هذا إضافة لضعف الإعلان الذي كان يغزو الإعلام سابقاً، مشيراً إلى فقدان مصادر التمويل للإعلام بشكل عام، وللإعلام الاقتصادي بشكل خاص، مبيناً أن المصالح باتت مفقودة، فالذي كان يقدم دعماً لصحيفة اقتصادية كان بحاجة لذلك الإعلان عن مؤسسته، أما الآن فلا يكترثون لذلك بحجة أنه لا توجد ميزانية للتمويل، ويلجأون للإعلان في حال نشر مشكلة معينة حول منشأة ما، أو شركة ما تابعة لهم.. هنا يلجأون للإعلان لتبييض صفحاتهم فقط، وهذا ما يسمى الإعلام الفضائحي، وليس إعلاماً اقتصادياً، بينما القضايا الاقتصادية الكبرى قلما يهتمون بها أو يكترثون لها، سواء الحكومة أو الفعاليات الاقتصادية.

 

جزء لا يتجزأ

وفي سياق الحديث عن فترة انتعاش الصحافة الاقتصادية بين الزميل عيد أنه في العقد الأول من الألفية الثالثة شهدت الصحافة الاقتصادية انتعاشاً لوجود محرك للاقتصاد “المال”، حيث كان هناك قطاع مالي منتعش يولد لنا اقتصاداً منتعشاً؛ وخلال تلك الفترة، كانت تسود حالة انفتاح واستثمارات خارجية وداخلية، وكانت حركة الصادرات نشطة، وكان القطاع المالي محرراً، وبالتالي أدى ذلك إلى انتعاش قطاع الاستثمار من النقل والتكنولوجيا، بعد أن كان مقتصراً فقط على مجالي الزراعة والصناعة، ومن ثم توسع الاستثمار بمجالاته، وتوسعت معه أهمية فكرة وجود التسويق والإعلان لتلك المشاريع والنشاطات، ما أنعش الإعلان لها، وهو جزء لا يتجزأ من الإعلام، وبالتالي ازدهاره انعكس على الإعلام ككل، وأصبح الإعلام حينها استثماراً بحد ذاته؛ ويمكننا القول: عندما يكون هناك قطاع مالي منتعش يكون هناك اقتصاد منتعش عموماً، بكافة جوانبه، مشيراً إلى أننا اليوم نلاحظ بوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك الكم الهائل من الشركات، ليبقى السؤال: هل هذه الشركات بحالة عمل تمكن الإعلام من مواكبة ما تقوم به من أعمال؟

 

انكفاء

بعيداً عن الأزمة ودورها في تراجع الصحافة الاقتصادية، بين أحمد أن هناك نقطة أخرى تتمثل بانكفاء المتخصصين عن الظهور في الإعلام، فمثلاً لا نجد في الإعلام السوري أكثر من 4 أو 5 متخصصين في الإعلام الاقتصادي، أو كاقتصاديين يظهرون في الإعلام، كما أن أساتذة الجامعات والمستشارين الاقتصاديين منكفؤون تماماً عن الظهور، على عكس ما نشاهد في التحليل السياسي والتحليل العسكري، فهناك محللون متوفرون بكثرة شديدة في هذا الشأن، وهذا الأمر يعود – برأي أحمد – إلى أن التحليل الاقتصادي يحتاج إلى جهد وعمل ومتابعة وقراءة مستمرة، ولكن للأسف هذا الأمر قلما يقوم به الخبراء السوريون في كل مكان، أما التحليل السياسي فيعتمد على آراء ووجهات النظر، ولا يحتاج إلى كل هذا الجهد الذي يبذله المحلل الاقتصادي!!

 

“فشة خلق”

وأضاف أحمد إن معظم من يكتب بالصحافة يشخص الواقع فقط، ولا يكتب برؤية علمية، إنما بالمشاهدات الحية أمامه، أي كما يراها المواطن، فتبدو المقالات الاقتصادية “فشة خلق”، وبالوقت ذاته نرى إعلاميين يعملون بالشأن الاقتصادي هم – للأسف – انتهازيون بشكل كبير يستغلون مواقفهم الإعلامية من أجل أن يقوموا بعمليات تبجيل وتمجيد لمسؤوليين “وزراء ومدراء” للحصول على بعض الميزات والخصوصيات والمساعدات، كالذين يحيون الوزير الجديد والمدير الحالي، وبمجرد أن يغادر يبدؤون بنقده والتمجيد والتهليل للآتي والإشادة له حتى قبل أن يبدأ عمله، وهم من نسميهم أصحاب الأقلام الصفراء والصفحات الصفراء، فهم لا يتمتعون بأخلاقية مهنية، وبالتالي يؤثرون على الصحافة الاقتصادية بشكل عام، وعلى القارئ بشكل خاص، ولم يعد بالتالي يشعر بأية ثقة أو مصداقية تجاه ذلك الشخص الذي يقوم بمجرد استلام مسؤول جديد مهامه يبدأ بانتقاد السابق وتمجيد الحالي.

 

خلاصة القول..

إن ارتباط تدني عدد الصحفيين المتخصصين في مجال الاقتصاد بعدم توازن وثبات الواقع الاقتصادي، وتذبذب النشاطات الاقتصادية، وعدم تكافؤ الجهد المبذول مع الدخل، يفرض على المؤسسات الإعلامية اعتماد التدريب والتأهيل منهجاً لا بد منه لتحظى بمنتج صحفي اقتصادي لا يضع المتلقي بصورة ما يجري من نشاطات اقتصادية فحسب، بل قدم له جرعة تحليلية ولو بالحد الأدنى لهذه النشاطات.