الحروب المستمرة ترتد إلى الداخل.. واشنطن تعاني من جنون العظمة وفقدان الثقة والانقسامات المتزايدة!!
“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر
أمريكا الحصينة مصطلح مهين يشير عادة إلى أشكال متطرفة من الانعزالية، لكن فريد زكريا، مقدم لبرامج في الـ CNN، أعطى الفكرة تطوراً جديداً ومثيراً للقلق، ففي عمود مثير في صحيفة “ذي واشنطن بوست”، وصف زكريا كيف أن الإفراط في المخاوف الأمنية يجعل الولايات المتحدة أكثر “إمبريالية” من الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، فالسفارات والمباني العامة وحتى مبنى الكابيتول الأمريكي تحاط بالحواجز أو الخنادق أو التحصينات؛ وبدلاً من تقديم رؤية رحبة للعالم الخارجي وللشعب الأمريكي تنقل الثقة والقوة والانفتاح، يبدو مظهر أمريكا العام غير واثق وضعيف وخائف ومعزول. ووفقاً لزكريا، فإن مثل هذه المخاوف شجعت أيضاً على إيلاء الاعتبار المفرط للسرية، ولطبقات جديدة من التسلسل الهرمي والقيود، ونهج خجول ومتصلب في السياسة العامة. وبحسب كلماته، “تشبه حكومة الولايات المتحدة الآن ديناصوراً – وحشاً ضخماً – ذا جسد ضخم ودماغ صغير، ما يجعله يتمتع بحماية جيدة بشكل متزايد، ولكنه بعيد عن الناس العاديين ولا يستجيب للتحديات الحقيقية التي تواجه الأمة”.
والسؤال الكبير هو: لماذا يحدث هذا؟ هل السبب ببساطة هو أن العالم أصبح أكثر خطورة، أم أن هناك علاقة بين الطريقة التي تتصرف بها الولايات المتحدة في الخارج والتهديدات المختلفة في الداخل؟
هناك عدة طرق واضحة أدى من خلالها السلوك الأمريكي الأخير في الخارج إلى مزيد من انعدام الأمن، والبارانويا، وفقدان الثقة، والانقسام داخل الولايات المتحدة، لدرجة أنه يتعين على المسؤولين الآن إقامة حواجز في جميع أنحاء واشنطن (وفي الكثير من المدن الأخرى أيضاً).
والسبب رقم 1 هو مشكلة “الارتداد” المعروفة، فخلال “لحظة القطبية الأحادية”، كان المسؤولون الأمريكيون مقتنعين بأن السياسة الخارجية الصليبية ستكون مفيدة للولايات المتحدة وجيدة لبقية العالم. وكما قال الرئيس السابق جورج دبليو بوش، قبل بضع سنوات من توليه منصبه، فإن إعادة تشكيل العالم على صورة أمريكا ستؤدي إلى “أجيال من السلام الديمقراطي”. ولكننا، بدلاً من ذلك، شهدنا تدهوراً مطرداً في الديمقراطية وتآكلاً للأمن في الداخل والخارج. ومهما كانت نوايا الأمريكيين، فقد تسببت تصرفات الولايات المتحدة في معاناة هائلة في بلدان أخرى – من خلال العقوبات، والعمل السري، ودعم الطغاة، والقدرة الهائلة على غض الطرف عن السلوك الوحشي للحلفاء المقربين – ناهيك عن الأنشطة العسكرية الأمريكية بعيدة المدى. وبالنظر إلى الدول التي غزتها الولايات المتحدة، والقنابل التي ألقتها، وهجمات الطائرات بدون طيار التي نفذتها، فلا عجب أن بعض الناس في أماكن أخرى يتمنون لأمريكا السقوط والهزيمة؟
اعتاد بوش أن يقول إن الإرهابيين يأتون إلى الولايات المتحدة لأنهم “يكرهون حرياتنا”، ولكن هناك قدراً هائلاً من الأدلة – بما في ذلك تقرير لجنة 11 أيلول الرسمي – التي تُظهر أن الدافع وراء “التطرف” المناهض لأمريكا كان معارضة سياسة الولايات المتحدة. وبالنظر إلى ما فعلته الولايات المتحدة – لا سيما في الشرق الأوسط – كان من المتوقع تماماً أن يحاول بعض الجماعات والدول الرد عليها، والعمل ضدها ومناهضتها.
ثانياً: إن المبالغ الهائلة التي أنفقها الأمريكيون في محاولة لإعادة بناء بعض الدول بعد تدميرها، أو فرض “الديمقراطية” بالقوة في دول أخرى، أو ملاحقة “الإرهابيين العالميين” في مختلف مناطق العالم، وتشجيع إسرائيل في سياساتها العدوانية، قد تركت حتماً موارد أقل لمساعدة الأمريكيين في الداخل (بما في ذلك قدامى المحاربين في الحروب الطويلة الأمد). ولا تزال الولايات المتحدة تنفق على الأمن القومي أكثر مما تنفقه الدول الست أو السبع التالية لها مجتمعة، وليس هناك شك في أن كل هذه الأموال أنتجت قدراً هائلاً من القوة العسكرية، لكن ليس لدى الولايات المتحدة أفضل المدارس الابتدائية والثانوية في العالم، ولا أفضل رعاية صحية، ولا أفضل شبكة “واي فاي”، ولا أفضل السكك الحديدية والطرق والجسور، ولا أفضل شبكات الطاقة، وهي تفتقر إلى المؤسسات العامة جيدة التمويل التي يمكنها تلبية احتياجات المواطنين الأمريكيين في حالة حدوث جائحة أو تمكين البلاد من الحفاظ على التفوق التكنولوجي الذي ستحتاجه للتنافس مع البلدان الأخرى لبقية هذا القرن. وإذا نظرنا إلى الوراء، فإن أكثر من 6 تريليونات دولار أنفقت على ما أطلق عليه بوش اسم “الحرب على الإرهاب” – بما في ذلك الأموال التي أنفقت على حروب لا يمكن الانتصار فيها في أفغانستان والعراق – وكان يمكن بالتأكيد إنفاقها لمساعدة الأمريكيين على عيش حياة أكثر راحة وأماناً في بلادهم (أو لو تركت في جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين). أضف إلى هذه القائمة قرارات تعزيز العولمة السريعة وإلغاء الضوابط المالية، والتي ألحقت ضرراً كبيراً ببعض قطاعات الاقتصاد، وأدت إلى الأزمة المالية، عام 2008، وتالياً كشفت عن سبب تلقي الثقة بالنخبة ضربة قوية.
ثالثًا، تتطلب إدارة سياسة خارجية طموحة وشديدة التدخل – وعلى وجه الخصوص، تلك التي تحاول التلاعب بالسياسات الداخلية للدول الأخرى وإدارتها وتشكيلها في نهاية المطاف – الكثير من النفاق. وللحفاظ على الدعم الشعبي، يتعين على النخبة الحاكمة هدر الكثير من الوقت في تضخيم التهديدات، والمبالغة في المكاسب، والتصرف في الخفاء، والتلاعب بما يقال للجمهور. لكن في نهاية المطاف، تظهر بعض الحقائق على الأقل، وتوجه ضربة أخرى لثقة الجمهور. وعندما تؤدي السياسات الخارجية إلى رد فعل سلبي في الداخل، يشعر كبار المسؤولين بأنهم مضطرون لفرض المزيد من القيود والبدء في مراقبة ما يفعله المواطنون العاديون، ما يزيد من الشك وانعدام الثقة في السلطة الحاكمة.
وما يزيد الطين بلة أن مهندسي الفشل نادراً ما يخضعون للمساءلة، وبدلاً من الاعتراف بأخطائهم علناً، يمكن حتى للمسؤولين السابقين الذين فقدوا مصداقيتهم التوجه إلى مجالس إدارة الشركات، أو شركات التأمين الآمنة، أو الشركات الاستشارية المربحة، على أمل العودة إلى السلطة بمجرد أن “يستعيد” حزبهم البيت الأبيض. وبمجرد عودتهم إلى المنصب، تكون لهم الحرية في تكرار أخطائهم السابقة، مدعومين بمجموعة من أولئك الذين لا تتغير توصياتهم أبداً بغض النظر عن عدد مرات فشلهم.
لماذا ينبغي على الأمريكيين العاديين أن يثقوا بنخبة ضللتهم مراراً وتكراراً، وفشلت في الوفاء بما وعدت به، وراكمت حصصاً أكبر من الثروة، وتسببت بالكثير من العواقب جراء أخطائها الماضية؟ في هذه المرحلة، يصبح من السهل إقناع شخص ما بأن “النظام زائف”، وأن وسائل الإعلام السائدة مليئة “بالأخبار المزيفة”. لم يبدأ دونالد ترامب تعلم كيف يكذب في عام 2016 – على العكس من ذلك، فقد تأسست حياته المهنية على الأكاذيب منذ اليوم الأول – لكنه انتخب رئيساً لأن الأمريكيين لم يعودوا، جزئيا، يعتقدون أنه يمكن الاعتماد على أي شخص لقول الحقيقة. نسجت هذه الخيوط معاً لتكون هناك بيئة خصبة لنظريات المؤامرة، خاصة بعد إبلاغ الأمريكيين مراراً وتكراراً أن مجموعة واسعة من الأعداء الغامضين والقسريين كانوا يخططون لانتزاع حريتهم منهم. في الخمسينيات، كان الخوف من الاختراق الشيوعي؛ وبعد 11 أيلول، كان من المفترض أن يكون الخطر المميت هو الإسلام، أو المهاجرون، أو “غزو اللاجئين”. بمجرد أن يتم إقناعك بأن داعش تشكل تهديداً وجودياً (على عكس كونها مشكلة خطيرة ولكن يمكن التحكم فيها)، فقد لا يكون من الصعب إقناعك بأن وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون،
كانت متورطة وعدد من مقرّبيها في شبكة ترتكب الجرائم الجنسية بحق الأطفال، وتتخذ مطعم “بينغ بونغ بيتزا” الواقع شمال غربي واشنطن مقراً لها.. الأمر المؤسف أننا لم نقض الكثير من الوقت لمواجهة بعض المخاطر الحقيقة مثل فيروس جديد شديد العدوى.
ما يمكن قوله هو إن السياسات والحروب الأمريكية الخارجية ساعدت على تأجيج المخاطر التي يواجهها الأمريكيون الآن في الداخل، فقد شرعت الولايات المتحدة في إعادة تشكيل العالم على صورتها، وعندما تراجعت في بعض مناطق هذا العالم، استجابت بالطريقة التي تتصرف بها معظم المجتمعات عندما تتعرض للهجوم. أصيب الأمريكيون بالخوف والهلع، ووجهوا انتقادات شديدة، وتوقفوا عن التفكير بشكل واضح واستراتيجي، وفتشوا حولهم بحثاً عن شخص لإلقاء اللوم عليه. وبدلاً من البحث عن قادة مهتمين حقاً بحل المشكلات الحقيقية التي تواجهها الولايات المتحدة، انتهى الأمر بالأمريكيين بمدعي الوطنية المختالين، مثل تيد كروز أو مايك بومبيو.
بالتأكيد ليست تلك هي القصة الكاملة، فقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في وصول الأمريكيين إلى ما وصلوا إليه، جنباً إلى جنب مع ظهور مجرة من الشخصيات الإعلامية التي اكتشفت أنه يمكن أن تصبح ثرية كونها بغيضة، وفاحشة، ومخادعة. لقد كان جوليان زيليزر، المؤرخ الرئاسي بجامعة برنستون محقاً في إلقاء اللوم على رئيس مجلس النواب السابق نيوت غينغريتش، الذي أدت رغبته في السلطة وحدها أكثر من أي شخص آخر إلى تدمير معايير التعاون والتسوية بين الحزبين. كما أن قرار الحزب الجمهوري بتثبيت مستقبله السياسي على التلاعب بالدوائر الانتخابية، وقمع الناخبين، وتعبئة قاعدة متآكلة بعيدا عن محاولة استقطاب الناخب العادي، بالتأكيد، جزء من المشكلة أيضاً، إلى جانب الروح الملتوية لترامب نفسه.
ولكن لا ينبغي التغاضي عن العلاقة بين المغامرات الإمبراطورية في الخارج والاضطرابات الداخلية. لقد حذر الرئيس جيمس ماديسون ذات مرة من أنه “لا يمكن لأمة أن تحافظ على حريتها في خضم الحرب المستمرة”، ومن الأفضل أن يفكر الأمريكيون اليوم في تحذيره ذاك. تطلق الحملات التي لا نهاية لها في الخارج العنان لمجموعة القوى السياسية – العسكرية، والسرية، والسلطة التنفيذية المعززة، وكراهية الأجانب، والوطنية الزائفة، والديماغوجية، وما إلى ذلك – وكلها تتعارض مع الديمقراطية السليمة. وإذا كان الرئيس جو بايدن يريد حقاً معالجة الانقسامات الأمريكية في الجبهة الداخلية، فعليه أن يبدأ فعلاً أقل في أماكن أخرى. وإلا فإن الولايات المتحدة ستكون بحاجة إلى جدران أكبر، وليس على حدودها فحسب!!