عشر سنوات من الحرب في سورية.. كيف أصبحت لعبة محاكاة أعدتها المخابرات الأمريكية واقعاً فعلياً؟!
كارين لوكفيلد ــ ترجمة” مازن المغربي “عن الألمانية”
ما بدأ في آذار 2011، لم يكن “حرباً أهلية” لأن قلة فقط من 23 مليون سوري شاركوا فيه.. حاولت الغالبية العظمى من السكان (12 مليوناً وفقا ًللأرقام الرسمية) الوصول إلى أماكن آمنة في مناطق أخرى داخل البلاد، أو عبر الحدود قبيل اندلاع القتال. وفي آب 2012، حدد جهاز المخابرات العسكرية الأمريكية الوضع والتوقعات حول الحرب في تقرير رٌفع إلى الحكومة الأمريكية، وإلى قيادة الجيش الأمريكي، على النحو التالي: “السلفيون والإخوان المسلمون والقاعدة في العراق هم القوى الرئيسية الدافعة للانتفاضة في سورية”، ومضى يقول: “الغرب ودول الخليج وتركيا يدعمون المعارضة، وروسيا والصين وإيران يدعمون النظام”. تضمن التقرير أن تطور الأحداث كان بمثابة حرب بالوكالة على ظهور السوريين والمنطقة بأسرها، وكان متوقعاً بالفعل، وتضمن تقوية “القاعدة” و”جبهة النصرة”، والتحريض الديني بهدف تعبئة الحرب ضد حكومة الأسد وضد حزب الله (..)، وتم التعامل بطريقة مماثلة مع الأنظمة الممانعة الأخرى مثل العراق وإيران”.. تم تحديد المنطقة الحدودية بين سورية والعراق منطقةً استراتيجية. لم يستبعد التقرير قيام “إمارة سلفية”، “وهذا بالضبط ما أرادته القوى التي أرادت دعم المعارضة بهدف عزل النظام السوري (..)”. كان استشفاف الآفاق في تحقيق المخابرات العسكرية الأمريكية على النحو التالي: “ستحاول قوات المعارضة “إخضاع المناطق الشرقية (الحسكة ودير الزور) ومناطق الحدود مع تركيا ومحافظتي الموصل والأنبار غربي العراق”. وتابع: “إن الدول الغربية ودول الخليج وتركيا تدعم هذه الجهود (..) وهي ستساعد في إعداد ملاذات آمنة تحت الحماية الدولية، على غرار ما حدث في ليبيا عندما تم اختيار بنغازي مركز قيادة لـ” حكومة انتقالية””.
المواجهة بدلاً من التعاون الحرب في سورية ونتائجها على دول الجوار قسمت العالم. إن المنطقة الواقعة بين الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط هي مكان للمصالح الإقليمية والدولية. تريد الولايات المتحدة وأوروبا تعزيز النفوذ والسيطرة بكل الوسائل، وتريد الصين وروسيا توسيع الاقتصاد والتجارة مع دول المنطقة. عانى سكان البلدان من التدخلات والحروب والهروب والنزوح منذ عقود. وتلا الفلسطينيين اللبنانيون والعراقيون والليبيون واليمنيون. وباندلاع الحرب في سورية، عام 2011، غادر أكثر من 6 ملايين سوري وطنهم، يعيش معظمهم في مخيمات اللاجئين في المنطقة، دون أي آفاق، وفي ظل انعدام الأمن الاقتصادي والسياسي. وهذا لن يتغير بدون مفاوضات واتفاقيات أمنية بين الفاعلين الدوليين والإقليميين. مجلس الأمن الدولي معطل، والقانون الدولي متجاهل. أما عملية أستانا، التي أطلقتها روسيا وإيران وتركيا، في أوائل عام 2017، لإنهاء القتل في سورية وتعزيز عملية المفاوضات السياسية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف، فقد قاطعتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. كما تجاهلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي “مفهوم الأمن الجماعي لمنطقة الخليج” الذي قدمته روسيا، منتصف عام 2019. إن محاولات الدول العربية لإعادة دمج سورية في جامعة الدول العربية من أجل الحد من التوترات الإقليمية تجابه بعرقلة من قبل لولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في دبي قبل أيام، 9 آذار 2021، وصف وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، عودة سورية إلى جامعة الدول العربية بوصفها فرصة، وأن من الوارد أن يساعد العمل مع الحكومة السورية والقطاع الخاص في البلاد في إعادة البلاد إلى طبيعتها، لكن وزير الخارجية قال إن “قانون قيصر فاقم الوضع”، وتابع: “قلنا ذلك علانية للولايات المتحدة”. دعمت الإمارات العربية المتحدة التمرد ضد الحكومة السورية في بداية الحرب. وبعد ذلك، غيرت مسارها، وفتحت سفارتها في دمشق، عام 2018. في العام 2019، شاركت هي ودول الخليج العربي الأخرى في معرض دمشق الدولي. ستكون إعادة بناء سورية عملاً مربحاً لن يفيد سورية فحسب، بل والإمارات والدول العربية الأخرى أيضاً؛ لكن الولايات المتحدة تريد أيضاً منع ذلك، لأنها لم تحقق بعد هدفها الأصلي المتمثل في تقسيم وإضعاف سورية وإيران – كما هو وارد في تقرير المخابرات العسكرية الأمريكية. في العام 2017، أوضح وزير الخارجية الأمريكي – آنذاك – ريكس تيلرسون، لحلفاء الولايات المتحدة، أنه ينبغي عليهم الامتناع عن تقديم مساعدات إعادة الإعمار، وعن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية، حيث صرح المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية، جيمس جيفري، صراحة، أن وظيفته هي أن يتأكد من أن روسيا قد غرقت في “مستنقع” في سورية. منذ عقود من الزمان، تعرضت اقتصاديات المنطقة للتدمير بسبب الحروب والعقوبات، وكان الوجه الآخر لهذه العملة هو ملايين اللاجئين ومليارات الدولارات لما يسمى برامج المساعدة التي تضمن مستوى منخفضاً من الحياة للناس في المخيمات، لكنها تدمر العمل والكرامة الإنسانية والتنمية الاقتصادية وتقرير المصير في البلدان المعنية. واليوم، ليس الشعب السوري وحده هو الذي يقاتل من أجل مستقبله، ففي العراق ولبنان أيضاً يقاتل الناس ضد تداعيات الحرب على سورية التي استمرت عشر سنوات. تتميز حياتهم اليومية بالصعوبات الاقتصادية ويؤدي التضخم المتفجر إلى ارتفاع الأسعار، ويستغل المضاربون الماليون الوضع غير المستقر.
إسرائيل بوصفها المحافظ على المصالح الغربية لا توجد في الدول الغربية في الأفق سياسات انفراج، ولا برامج تخفيف عبء ديون لمساعدة سورية على الوقوف على قدميها، من أجل المصالحة، وتحقيق الاستقرار في المنطقة. بدلاً من ذلك، يخطط الجيش الأمريكي وحلف شمال الأطلسي “الناتو” للشرق الأوسط بوصفه منطقة انتشار عسكري. يُظهر مثال الإمارات العربية المتحدة أن العقوبات والحصار الاقتصادي والتعاون العسكري وصادرات الأسلحة وجهان لعملة واحدة. إن الولايات المتحدة تمنع التعاون مع سورية تحت التهديد بالعقوبات، وفي الوقت نفسه، نجد أن الإمارات تسعى الآن للحصول على الأسلحة الجديدة، حالها حال المملكة العربية السعودية التي تركز على تطوير وتوسيع الطاقة النووية. تتصف منطقة الشرق الأوسط، من منطقة الخليج العربي إلى شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، بنظر الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بأنها “مجال اهتمام”، أما الحاكم العسكري في هذه المنطقة المجال فهو إسرائيل. وبفضل المنح السياسية والاقتصادية والعسكرية للعالم الغربي، فإن “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” تعمل على زعزعة استقرار الدول العربية المجاورة لها، وعلى مدى عشر سنوات كانت سورية أهم منطقة قتالية بالنسبة لها، كما اعترف بذلك سياسيون وعسكريون إسرائيليون؛ حيث صرح وزير الحرب الحالي، بيني غانتس، والقائد السابق للقوات المسلحة الإسرائيلية، مؤخراً، لمؤيدي حزبه أن إسرائيل تقصف سورية “كل أسبوع تقريباً” من أجل منع “تثبيت أقدام إيران” هناك. ففي عام 2020، صرح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، اللفتنانت جنرال أفيف كوخافي، مطلع كانون الأول من العام الماضي: “هاجمت إسرائيل أكثر من 500 هدف، على جميع الجبهات، بما في ذلك المهمات السرية، لكن لا يزال لدينا طريق طويل لنقطعه قبل أن نحقق أهدافنا”. نتيجة لذلك، تشن إسرائيل هجمات حتى في دول بعيدة ذات سيادة. وقال كوخافي إنهم يعملون “بشكل مكثف” في ست مناطق. وهناك “ساحات نعمل فيها يومياً، وهناك تلك التي نعمل فيها أسبوعياً أو شهرياً”. وكما قال الجنرال فإن الشرق الأوسط هو “المنطقة الأكثر انقساماً والأكثر عنفاً في العالم”. هذا يفرض على إسرائيل عملياً “العمل وفق إجراءات كلاسيكية”. لا تحب إسرائيل أن تسمع النقد، لما قال السفير الروسي في تل أبيب، أناتولي فيكتوروف، في تشرين الثاني 2020، إن المشكلة في المنطقة ليست إيران، بل إسرائيل، تم استدعاء الدبلوماسي إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية. وقال فيكتوروف لصحيفة جيروزالم بوست إن إسرائيل لا تلتزم بقرارات الأمم المتحدة.. هذه “مشكلة أكبر من إيران في ما يخص الشرق الأوسط”. لا يوجد في الأفق مؤشر على خفض التوتر أصبح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منطقة معركة أخرى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. دارت نقاشات عديدة حول سورية بشكل غير دبلوماسي، بل بخبث وعدوانية تجاه روسيا، خاصة من قبل بعض الممثلين الأوروبيين في مجلس الأمن الدولي. وغالباً ما استخدمت روسيا والصين “الفيتو” لمنع المزيد من إضعاف دور المؤسسات الدولية والقانون الدولي على حساب سورية. كما تأثرت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أيضاً بالنزاع، حيث استمر الادعاء بأن سورية نفسها تستخدم الغازات السامة ضد سكانها، وهو أمر رفضته القيادة السورية مراراً.عندما استولى مقاتلو جبهة النصرة على مصنع غاز الكلور الوحيد في البلاد، شرق حلب، في كانون الأول 2012، أبلغت الحكومة في دمشق مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة على الفور، وحذرت من احتمال استخدام أسلحة الكلور. بعد بضعة أشهر، في آذار 2013، قُتل 31 شخصاً في هجوم محتمل بالكلور على خان العسل. ألقت الحكومة السورية باللوم على مقاتلي جبهة النصرة، وألقت المعارضة باللوم على الحكومة. دعت سورية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية للتحقيق في حادثة خان العسل. وصل فريق من مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى دمشق، في منتصف آب 2013، لكنهم لم يسافروا قط إلى خان العسل. وبعد ثلاثة أيام من وصولهم، قُتل مئات الأشخاص في هجوم بالأسلحة الكيماوية في الغوطة، وهي البساتين المحيطة بدمشق. اتهمت المعارضة والخارج الجيش العربي السوري، الذي نفى أي مسؤولية عن الواقعة. وعثر المفتشون على آثار السارين في جثث الضحايا، وهددت الولايات المتحدة بشن هجوم، وحذرت روسيا من ذلك. وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على هجوم انتقامي على سورية من قبل الجيش الأمريكي، ووضعت السفن الحربية من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل في حالة تأهب في شرق البحر المتوسط، في حين انطلقت سفن الأسطول الروسي في البحر الأسود، وتمركزت قبالة الساحل السوري.لم يحدث الهجوم الأمريكي وسلمت سورية، عبر وساطة روسية، ترسانتها من الأسلحة الكيميائية بالكامل، التي كانت قد خزنتها لردع هجوم إسرائيلي، إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتدميرها. وانضمت سورية إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ووقعت اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية. لكن وقعت هجمات أخرى بالمواد الكيماوية، واتهمت الحكومة. في عامي 2020 و2021، وجهت ثلاث منظمات في باريس وكارلسروه تهماً ضد الحكومة السورية بارتكاب جريمة حرب بهجوم الغاز السام، في آب 2013، وهي “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” ومقره برلين، و”الأرشيف السوري”، ومقره أيضاً في برلين، و”مبادرة عدالة المجتمع المفتوح”، وهي منظمة فرعية تابعة لمؤسسة المجتمع المفتوح العالمية. يمكن للإجراءات القانونية بشأن مرتكبي الهجمات بالمواد الكيماوية في سورية أن تلقي الضوء على الداعمين الذين زودوا، في مرحلة مبكرة، الجماعات التكفيرية في سورية، وتحديداً “جبهة النصرة”، بمواد كيميائية لإنتاج غاز السارين، بالإضافة إلى مواد أخرى. كان هيثم طبلقة أحد هذه الشخصيات، وهو سوري من اللاذقية تعاون بشكل وثيق مع جهاز المخابرات العسكرية التركي MIT، منذ بداية الحرب، وهو مسؤول عن العديد من الهجمات على المدنيين. في أيار 2013، تم القبض على هيثم في أضنة مع خمسة أشخاص آخرين يٌعتقد أنهم ينتمون إلى “جبهة النصرة”. كان بحوزتهم 2 كيلوغرام من المواد الكيماوية وجد تقرير التحقيق أنه يمكن استخدامها في صنع السارين، لكن هيثم توفي في منتصف شباط 2021، هو واثنان من رفاقه في حادث سيارة بالقرب من قونية (تركيا). آفاق الوضع للحرب على سورية جوانب عديدة، ويشارك فيها العديد من الجهات الفاعلة. تم استخدام وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك الأسلحة والأموال. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تم الكشف عن عمليات سرية في الخارج أدت إلى تأجيج الحرب عمداً. في عملية “خشب الجميز” التي بلغت تكلفتها مليار دولار أمريكي، قامت وكالة المخابرات المركزية بتهريب أسلحة عبر تركيا والأردن إلى المنطقة الحدودية مع سورية، كما دربت مقاتلين مسلحين وأنشأت “مراكز عمليات عسكرية” لدعم المقاتلين. أخيراً، تم تجنيد الأكراد السوريين كقوات برية من قبل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد “الدولة الإسلامية” التي انبثقت من “القاعدة” في العراق تحت أعين جميع الأجهزة السرية. وكما ذكرنا في البداية، كان جهاز المخابرات العسكرية الأمريكية قادراً على توقع تطور الأحداث في سورية، في آب 2012، لأن التطور بهذا الاتجاه، وفقاً لكل ما نعرفه اليوم، كان مطلوباً.إن شكوى الناس من الحياة اليومية الصعبة مبررة، لكنها نصف القصة فقط. لم يكن الوضع مأساوياً لو لم يموّل “الغرب ودول الخليج وتركيا” مقاتلين من مختلف الأطياف قبل عشر سنوات، ولو لم يؤجج الحرب بالوسائل الإعلامية والسياسية والعسكرية. لن يكون من الضروري تمويل منظمات المعونة، الدولية والخاصة، بالمليارات لو توقفت عملية عرقلة إعادة الإعمار في سورية، ومٌنحت البلاد إمكانية الوصول إلى مواردها الوطنية من النفط والغاز والقمح والقطن. وهذا يقتضي انسحاب القوات التركية والأمريكية من سورية. ويمكن حل الأزمة الاقتصادية، التي تؤثر أيضاً على العراق والأردن ولبنان، إذا تم وقف العقوبات أحادية الجانب من جانب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ وإذا تم التخلي عن السيطرة الخارجية على الحدود الوطنية للدول المعنية، مرة أخرى، فإن التجارة بين دول المنطقة يمكن أن تتسارع، كما يمكن التخلص من اقتصاد الحرب الذي أثرى الكثيرين. إن إعادة بناء سورية من شأنها أن تخلق فرص عمل في جميع أنحاء المنطقة، وأن تفيد الناس؛ ويمكن للاجئين أن يغادروا مدن الخيام غير المضيافة، وسوف يكون لدى السكان المتضررين مساحة للبداية الجديدة التي يتوقون إليها، والتي يصممونها بأنفسهم، والتي يستحقونها.