مجلة البعث الأسبوعية

د.ميسون علي: الدراماتورجيا ليست مصطلحاً معاصراً

في الوقت الذي تشهد فيه ورشات إعداد الممثل إقبالاً كبيراً من قِبل الشباب الراغبين في خوض عمار عالم التمثيل المسرحيبادرت مديرية المسارح والموسيقا مؤخراً إلى إقامة ورشة للدراماتورجياإشراف د.ميسون علي حرصاً من المديرية على تنويع نشاطها،وقد توّجت هذه الورشة بعرض بعنوان “العَود الأخير” قُدم على مسرح القباني بدمشق.. ولأهمية هذه التجربة كان لنا حوار مع د.ميسون علي عن الورشة والعرض ومصطلح “الدراماتورج” في المسرح.

 

*على أي أسس تم اختيار المشاركين في الورشة؟

**تم إجراء اختبار مقابلة للمتقدمين في مسرح القباني، وبنتيجة الاختبار تم قبول 15 مشاركاً ومشاركة في الورشة ممن لديهم خبرة في العمل المسرحي مهما كانت بسيطة،وكان عدد المقبولين يناسب نوعية الورشة وتوجهها مما أتاح الفرصة لي لمتابعتهم بدقة ومناقشة أفكارهم في التحليل والقراءة الدراماتورجية، وقد ركّزت الورشة على توضيح مفهوم الدراماتورجياالحاضر اليوم، لكنه لا يزال مبهماً إلا في الأوساط الأكاديمية والمختصة، كما ركّزنا على الدراماتورج ومهامه، وشرح كيف تدل الدراماتورجيا على وظائف متعددة ظهرت تباعاً مع تطور المسرح، والتمييز بين مهمتين مستقلتين هما: الكاتب والدراماتورج “المُعدّ المسرحي” وهذا المعنى الأحدث والذي يُعتبر وجوده ضرورة للابتعاد قليلاً عن العمل عندما يكون صاحبه قد غرق فيه لطرح رؤية نقدية في كل مراحل العمل.. وإضافة للقسم النظريكان لا بد من تقديم تطبيقات عملية حول التحليل الدراماتورجي”دراماتورجيا العرض” من خلال العمل على الكلاسيكيات والمسرح الحديث والمعاصر”نماذج من أعمال الألماني هاينر مولر والإنكليزي بيتر بروك والأميركي روبرت ويلسون في قراءتهم الدراماتورجية لمسرحية “هاملت”لشكسبير، والفرنسية أريان منوشكين في “ثلاثية الأترديين” والكاتبة المعاصرة سارة كين حيث تمت ترجمة مسرحية “حب فيدرا” خصيصاً للورشة، والألماني توماس أوستر ماير وعمله على نص “فويتسك” وقراءته المعاصرة له، كما خصصنا حيزاً في الورشة للبحث في دراماتورجيا السينما، واختلاف العمل الدراماتورجي بين المسرح والسينما من خلال تطبيقات عملية.

*لماذا اخترتِ “ارتجالية أوهيو” و”خطوات” للكاتب صمويل بيكيت ليكونا موضوعاً للعرض؟

**تم العمل في الورشة على نص “نهاية العالم ليس إلا” لجان لوك لاغارس وعلى نصوص الدراماتيكول”الدراما القصيرة” لصمويل بيكيت الذي ينتمي لمسرح العبث والذي يأخذ شكل السخرية المأساوية، وقدأغرانا نص بيكيت لأنه يقدم إمكانيات مهمة للممثل، ومن حيث شكل الكتابة ليس هناك حد فاصل بين الأجناس الأدبية والفنية المرئية والمسموعة، فالنص يستعير من الرواية أسلوبها السردي، ويستعير من السينما تركيز الكاميرا على زاوية من الصورة، كما يستعير من الإذاعة إمكانية التعبير بالصوت، وهذا تم استثماره في العرض وأضاف غنى كبيراً له، وقد قدمنا قراءة دراماتورجية لنص “ارتجالية أوهيو” و”خطوات” حيث دمجنا النصين وأجرينا ما يشبه المونتاج بينهما من خلال تلمّس نقاط الالتقاء والتشابه، وحمل العرض عنوان “العَود الأخير” حيث الإنسان يصبح جسداً يتلاشى ويتقلّص إلى ضمير وذاكرة، ويعيش حالة النزع الأخير الذي يبدو كعبور يشبه القدوم إلى الحياة، ولعل الكلام والمونولوجات الطويلة تحاول إعادة الروح إلى الجسد، والعودة إلى الحياة تتم عبر الصوت الذي يعني استرجاع الحياة الماضية، إذ لا حياة في الحاضر..والنص يحتوي على شحنة إنسانية عالية،وتتداخل فيه الأصوات والحكايات التي تسترجع الماضي وتعبّر عن الألم والانتظار الصامت والحنين وعذاب الفقد، وهذا يتقاطع بشكل كبير مع ما نعيشه اليوم في الواقع.

*ما أبرز ما تم تصحيحه من افكار لدى المشاركين في الورشة حول الدراماتورجيا؟

**أبرز ما تم تصحيحه هو أن الدراماتورجيا ليست مصطلحاً مًعاصراً، بل ظهر في الغرب منذ القرن الثامن عشر، وقد سبق الإخراج الذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر ومهّد له، وتبلورالمصطلح مع ليسنغ الذي ثبّت المعنى الجديد للكلمة في كتابه “دراماتورجية هامبورغ” كما حاول تثبيت الخصوصية المحلية الألمانية عندما ربط العمل المسرحي بالجمهور الذي يتوجّه إليه، وتم التأكيد على أن الدراماتورجيا عملية دقيقة ومهمة وتتطلب بحثاًوأدوات، وبناءً على ذلك ينبغي أن يكون الدراماتورج مختصاً بالمسرح.

*أي ميزات يجب أن يتمتع بها الدراماتورج؟ ولماذا أغلب مسرحياتنا تفتقد وجوده برأيك؟

**يجب أن يكون لديه أدوات منهجية تمكّنه من التحليل الدراماتورجي، ومعرفة غنية بالمسرح، وأساليب وأنواع الكتابة وتطورها، ومعرفة متمكّنة بأساليب معالجة النص، ومعرفة ثقافية عامة تمكّنه من الخروج من مستوى معالجة النص إلى مستوى أشمل لأنه بعد العمل على النص والتوقف عند القراءة المحددة للعرض قد يسعى الدراماتورجإلى ربط هذه الرؤية بمشروع أشمل، سواء كان اجتماعياً أو سياسياً، ونحن نفتقد الدراماتورج في بعض العروض بسبب عدم الإيمان بدوره، ورغبة البعض في الحلول محله دون أن يكونوا مؤهلين لذلك.

*”العَود الأخير” إعداد جماعيّ،فما أبرز ميزات الإعداد الجماعي برأيك؟

**الورشة كانت نتاج التقاء خبرات متنوعة لمجموعة من الأشخاص،وميزة الإعداد الجماعيّ أنه يتم يستدعي تقديم تحليل للنص من قبل كلّ مشارك، ومن خلال المناقشة ثبّتنا بعض الأفكار والتفاصيل، وتوليتُ في النهاية توحيد الرؤية والوصول إلى الصيغة النهائية لنص العرض.. والتدريبات في هذا النوع من العمل تكتسب طابعاً إبداعياً ويمكن تسمية التجربة بمسرح البروفة الخلاّقة.

*ماذا كانت أولوياتك كمخرجة في التجربة؟

**نصوص صمويل بيكيت لها خصوصيتها، فالكلمة مهمة، والجملة بلاغية، وهي بذلك تعطي مجالاً لوقع المسموع، واللعبة المسرحية تكمن في الأداء الصوتي والنص السمعي في ما يقرب من الشعر، والكلمة هنا تقول الواقع، لكن من منظور صاحبها عبر المونولوجات الطويلة أو الجمل المبتورة، لذلك كان من أولوياتي العمل مع الممثل على الشخصية وفهمها على مستوى الهوية، فهي قبل كل شيء صوت المتكلّم الذي يأخذ هويته من شرط الكلام،وقد عدتُ للنص الأصلي بلغته الفرنسية لتدقيق بعض الكلمات والجمل ومعناها لسهولة تبنّي الممثل لها في ظل غياب علامات الترقيم، كما عملنا على تقطيع الجمل ولحظات الصمت والوقفات (الزمن) ومعناها،وأبقيتُ على اللغة الفصحى لأن النص يقوم على وقع المسموع، والمحافظة على شعرية اللغة والاستعارة فيها..وقد حمل العرض بعداً مسرحياً عالياً على المستوى السمعي، وأوجد نوعاً من الإيقاع الموسيقي وكان أشبه بالسيمفونية، والسرد يتمسرح عبر استحضار الماضي ليكون حاضراً أو كأنه الحاضر، وهذا كان واضحاً أثناء بروفات قراءة النص ودافعاً ومبرراً لإنجاز العرض الذي أبرز هذه السمات عبر أداء الممثل ضمن الفضاء المسرحي، وقد تعاملتُمع المسرح على أنه قطعة من فضاء، حدودها حدود الخشبة، وزمنها زمن العرض، والإنسان سجين هذه الحدود، أما فضاء العرض أو فسحة المرئي فيهفكانت مساحة بكر تابعة لخيالي كمخرجة حيث الزمان والمكان تقلّصا إلى حدود الفراغ ليكونا مكانالاسترجاع فقط، لذلك اعتمدتُ على الممثل والإضاءة والصوت والمؤثرات السمعية دون أي ديكور، وهذا الخيار متناسب ونابع من صلب نص بيكيت.

*بعد تقديم العرض ماذا تحقق من الطموح؟

**حققتُ مع فريق العمل جزءاً كبيراً مما أردنا تقديمه بعد تذليل صعوبات العمل على نص لكاتب إشكالي مثل بيكيت، إن كان من خلال التحليل الدراماتورجي وإعداد نص العرض أو من خلال العرض نفسه،كما حاولنا تخطي العقبات اللوجستية كانقطاع الكهرباء في المسرح، والعمل ساعات مضاعفة مع الممثلين والفنيين ضمن الزمن المحدد للتدريبات خارج أوقات التقنين.

*تنتشر ورشات إعداد الممثل كثيراً اليوم، في حين ما زالت ورشات الدراماتورجيا خجولة، فما هي الأسباب؟

**بسبب الرغبة العارمة في التمثيل لدى غالبية شباب اليوم لاعتقادهم أن التمثيل في الدراما التلفزيونية خاصة سيفتح لهم أبواب الشهرة والكسب المادي الكبير والسريع، لذلك تنتشر ورشات التمثيل، ومنها ما يتعلق بإعداد المشارك للدخول إلى قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية والذي يشهد إقبالاً كبيراً في عدد المتقدمين قياساً للأقسام الأخرى، ولكن هذا لم يمنع من أن المبادرة التي قامت بها مديرية المسارح والموسيقا لبرمجة ورشة الدراماتورجيا كانت جيدة ولها صدى كبير، وهذا يدخل ضمن تنويع نشاط المديرية الذي لا يقتصر على تقديم العروض المسرحية وإنما برمجة الورشات أيضاً، لذلك من المهم متابعة إقامة هكذا ورشات سواء في المديرية أو في المحترَفات الخاصة، كما ينبغي تثبيت الدراماتورج في المؤسسة الرسمية جنباً إلى جنب مع الممثل والمخرج والسينوغراف لأن دوره غاية في الأهمية، خاصة وأن المعهد العالي للفنون المسرحية -قسم الدراسات المسرحية- يعمل من خلال مناهجه على إعداد الدراماتورج، وقد تخرّج منه منذ تأسيسه عشرات الدراماتورجيين، وأؤكد أن تثبيت الدراماتورج في المؤسسة المسرحية الرسمية ضرورة ملحة لتفادي الكثير من الهنات في العروض المسرحية.. الدراماتورجفي الغرب عضو في الفرقة والمؤسسة، والمسرحي برتولدبريشت الذي أنشأ فرقة البرلينرانسامبل بعد الحرب العالمية الثانية ثبت وجود الدراماتورج في المؤسسة.

*ما أهم نتيجة خلصت إليها الورشة؟

**العملية الدراماتورجية مهمة لأنها تبني علاقة جديدة بين النص والعرض بمعزل عن القواعد والأعراف التي كانت تتحكّم بالكتابة والعرض سابقاً،إذ لم يعد الترابط بين شكل كتابة النص وأسلوب العرض أمراً مفروغاً منه، كما أن ارتباط النص بنوع مسرحي معين لا يفترض بقاءه على نفس الصيغة في القراءة الدراماتورجية، كما خلصنا إلى أن الدراماتورجيا عملية متكاملة، يشارك فيها الدراماتورج مع المخرج والممثل والسينوغراف.

*ما هي النصيحة التي توجهينها للمشاركين اليوم؟

**عدم الاستسهال والعمل جيداً على إعداد العرض لأن النص هو اللبنة الأساسية التي يقوم عليها العرض، فإذا لم يكن النص المعدّ جيداً فإن العرض سينهار، خاصة في العمل على الكلاسيكيات، إذ على الدراماتورج إيجاد علاقة جدلية بين ثلاثة أزمنة هي: زمن الحكاية وزمن الكتابة وزمن العرض.

 

د.ميسون علي

حاصلة على الدكتوراه في المسرح الفرنسي المُعاصر، أستاذة المسرح الحديث والمعاصر في المعهد العالي للفنون المسرحية، تولّت إدارة قسم الدراسات المسرحية وقسم التمثيل وكانت وكيلة المعهد للشؤون العلمية، وهي تعمل الآن رئيسة لقسم السيناريو والنقد السينمائي في المعهد العالي للفنون السينمائية.

 

أمينة عباس