حنا مينه شاهد على إنسانية الطاعون
في قصة عنوانها “على الأكياس”، يصوّر لنا حنا مينه مشهداً من حياته يصف به “اليازرلي”، وهو رئيس العمال في مستودع على ميناء اللاذقية، الذي قصده برفقة صديقه ليعمل في مستودعات الحنطة بعد أن هجر المدرسة ليعيل عائلته الفقيرة التي تخلّى عنها الأب.
كان اليازرلي شديد السطوة، كثير السباب، حاد الطباع، حتى إن الطفل مينه، الهزيل المريض، تملكه الخوف حين رآه، واستقبله اليازرلي بأن “أمسك ثيابي من عند النقرة، ورفعني في الفضاء […] وسار باتجاه الباب فألقاني، كقط ميت، خارجاً على الرمل” ورفض أن يشغل هذا “الدوري” الصغير عنده.
ثم يخوض الصديق الجسور معركة سباب وشتائم مع اليازرلي إلى أن يذعن الأخير بعد أن يرى الأولاد وقد تجمهروا وتركوا العمل وتحلقوا حولهما، فقبل بأن يعمل مينه عنده.
بدأ الصديقان بدفع العربات المحملة بأطنان من أكياس الحنطة، وبعد ساعات من العمل الدؤوب على الرمال الحارقة في نهار تموزي ألهب حديد العربات، خارت قوى الطفل المريض حتى خرّ على الأرض مغشياً عليه: “حين سقطت على الرمال المحرقة، ورعف الدم من أنفي […] هرع من في العنبر، يتقدمهم اليازرلي، ولمّني عن الرمل، واحتضنني بين ذراعيه القويتين […] وضعني اليازرلي في العنبر، ودلق عليّ جرة ماء كاملة […] وقرّب من أنفي بصلة فقشها بكفه الغليظة، وبمنديله مسح الدم، فأعادني، بإسعافاته، إلى الوعي […] وبعودتي إلى الوعي كانت بصلة مفقوشة على أنفي، وكفّ اليازرلي تسند رأسي […] ورفعني من تحت إبطي، وأجلسني على كيس فارغ وجاء “بكازوزة” وأدناها من فمي، ولمّا تلاقت عيوننا، لم أصدق أنه هو […] كان إنساناً آخر، لا يقتل الأطفال كما تصورته، والكفّ التي رفعتني في البدء لتلقيني خارجاً تسند رأسي”.
لربما يجوز لنا أن نخطّ من هذه اللوحة التي رسمها حنا مينه من حياته البائسة خطاً ينتهي عند شخصية “الطاعون” أو زهير الطير” في مسلسل “على صفيح ساخن”، التي يؤديها الفنان الكبير سلوم حداد ببراعة مشهودة، فالطاعون يعمل زعيماً لمملكة “الزبالين أو النباشين”، وتحت إمرته أطفال كثيرون يرعاهم، دفعهم الفقر المدقع للعمل في “لمّ الزبالة” في عالم يعجّ بكل أنواع الجريمة، كالقتل والسرقة وتجارة الأعضاء والمخدرات، وما إلى ذلك.
وللطاعون ابنة يعمل جاهداً ليبني لها مستقبلاً مشرّفاً غير الذي عاشه وقاساه، فيذلل في سبيل ذلك كل وسيلة، مشروعة كانت أم محظورة، وتمكنه خباثته، المكتسبة ربما، من الوصول إلى مآربه بسرعة.
يُفتتح المسلسل بمشهد يصوّر الطاعون في مقبرة خالية لا يقطنها أموات، وإنما بناها لتكون خزنة خفيّة يدفن فيها “المال الحرام” الذي يجمعه لابنته حتى تعيش الحياة الكريمة التي يتمناها لها، وفي هذا نرى حنان الأب وتضحيته بنفسه في سبيل فلذة كبده. ونراه في مشهد آخر “يحمم” الأطفال النباشين، ويراعي نظافتهم، ويقدّم لهم ما أمكن من أصناف الطعام وحنان الأب الذي يفتقدونه في عالم لا يعرف الرحمة، والضعفاء فيه غذاء للمفترسين.
درسٌ يعلمنا إياه الطاعون أنه مهما بلغ الشر في نفس امرئ من مبلغ، لا بد وأن في نفسه من الرحمة والإنسانية ولو ذرة، فهو الأب العطوف الخائف على “مصلحة” ابنته ومستقبلها، وهو كفيل اليتامى والمساكين الذين نسيهم الزمان وتناساهم المجتمع والمسؤولون.
قد تكون الظروف هي التي دفعت “زهير الطير”، الموظف الصالح، ليصبح “الطاعون”، زعيم مافيا في العالم السفلي، وربما نرى له في نهاية القصة مشهداً يشابه مشهد التاجر شايلوك من مسرحية شكسبير “تاجر البندقية” وهو يدافع عن نفسه أثناء محاكمته ويلقي اللوم على ظلم المجتمع.
علاء العطار